غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

190

ثم ذكر سبب الاستعاذة من النار بقوله : { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } أي أبلغت في إخزائه نظيره قوله :{ فقد فاز }[ آل عمران :185 ] وفي كلامهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك .

ثم توسل إلى ما سأل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً } الآية . فهذا بيان وجه النظم في هذه الكلمات والآيات على وجه " ألقى في روعي " والله أعلم بأسرار كلامه . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " بينما رجل مستلق على فراشه إذا رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لك رباً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له " . وعنه صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض . وعنه صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كالتفكر " . وهذا إشارة إلى لفظ الخلق على أنه بمعنى المخلوق أو إلى السماوات والأرض بتأويل المخلوق . وفي كلمة { هذا } ضرب من التعظيم كأنه لعظم شأنه معقود به الهمم حتى صار حاضراً في خزانة الخيال . و { باطلاً } نصب على المصدر أي خلقاً باطلاً أو على الحال ، وقيل . بنزع الخافض أي بالباطل أو للباطل . قالت المعتزلة : فيه دليل على أن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبد ولأجل حكمة وغاية .

وقوله : { سبحانك } جملة معترضة تنزيهاً له من العبث وأن يخلق شيئاً بغير حكمة . فوجه النظم في قوله : { فقنا عذاب النار } أن الحكمة في خلق الأرض والسماوات أن يجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفته ووجوب طاعته واجتناب معصيته ، والنار جزاء من عصى ولم يطع . وقالت الأشاعرة : الدليل الدال على أن أحد طرفي الممكن لا يترجح إلا بمرجح عام ، وذلك المرجح لا بد أن ينتهي إلى الله تعالى ، فإذن الخير والشر والأفعال كلها بقضاء الله وقدره ، فلا يمكن أن تعلل أفعال الله بمصالح العباد بل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء . والباطل في اللغة الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوّة ولا صلابة فيكون بصدد التلاشي والاضمحلال . والمراد أن خلقهما خلق محكم متقن كقوله :{ وبنينا فوقكم سبعاً شداداً }[ النبأ :12 ]{ هل ترى من فطور }[ الملك :3 ] ومعنى { سبحانك } أنك وإن خلقتهما في غاية شدة التركيب وبصدد البقاء إلا أنك غني عن الاحتياج إليهما ، منزه عن الانتفاع بهما . ثم لما وصف ذاته تعالى بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال { فقنا عذاب النار } واحتج حكماء الإسلام بالآية على أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة ، وجعلها بحيث يحصل من حركتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع قطان العالم السفلي . قالوا : لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع لأن كل ذرة من ذرات الهواء والماء يشاركها في ذلك ، فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص . وناقشهم المتكلمون في ذلك وقالوا : إن الفلكيات أسباب للأرضيات على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة . والإنصاف في هذا المقام أن وجود الوسائط لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب ، وأن كون أفعال الله تعالى مستتبعة لمصالح العباد لا ينافي جريان الأمور كلها بقضائه وقدره . ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك ما يدل على عظم ذلك العقاب وهو الإخزاء ليدل على شدة إخلاصهم وجدهم في الهرب من ذلك فيكون أقرب إلى الاستجابة ، كما أنهم قدموا الثناء على الله بقولهم : { سبحانك } على الطلب ليكون أقرب إلى الأدب وأحرى بالإجابة ، وكل ذلك تعليم من الله تعالى عباده في حسن الطلب . قال الواحدي : الإخزاء جاء لمعان متقاربة . عن الزجاج : أخزى الله العدوّ أي أبعده . وقيل : أهانه . وقيل : فضحه . وقيل : أهلكه . وقال ابن الأنباري : الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن لأنه إذا دخل النار فقد أخزاه الله والمؤمن لا يخزى لقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم :8 ] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من امن وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مخزي أن لا يكون غيره وهو مؤمن مخزي .

وأيضاً الآية ليست على عمومها لقوله :{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا }[ مريم :71 ] فثبت أن كل من دخل النار فإنه ليس بمخزي . وعن سعيد بن المسيب والثوري أن هذا في حق الكفار الذين أدخلوا النار للخلود . وأيضاً إنه مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبته الخروج . وقوله :{ يوم لا يخزي }[ التحريم :8 ] نفى الخزي على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهي نفي الخزي المخلد . ويحتمل أن يقال : الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك ، وإذا كان المثبت هو الأول والمنفي هو الثاني لم يلزم التنافي . واحتجت المرجئة بالآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله :{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص }[ البقرة :178 ] ولقوله :{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا }[ الحجرات :9 ] والمؤمن لا يخزى لقوله :{ يوم لا يخزي الله النبي }[ التحريم :8 ] والمدخل في النار مخزي بهذه الآية . والمقدمات بأسرها يدخلها المنع . أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمناً وإن كان قبله مؤمناً ، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئيه الموضوع كما تقرر آنفاً . وقد يتمسك حكماء الإسلام بهذا في أن العذاب الروحاني أشد لأنه بين سبب الاستعاذة بالإخزاء الذي هو التخجيل وهو أمر نفساني . وقد يتمسك المعتزلة بقوله : { وما للظالمين } أي الداخلين في النار { من أنصار } أي في نفي الشفاعة للفساق لأنها نوع نصرة ، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع . والجواب أن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله : { والكافرون هم الظالمون } في [ البقرة :254 ] وأيضاً لا تأثير للشفاعة إلا بإذن الله فيؤل معنى الآية إلى أن الأمر يومئذٍ لله . وعلى هذا ففائدة تخصيص الظالمين بهذا الحكم أنه وعد المتقين الفوز فلهم هذه الحجة بخلاف الفساق . وأيضاً أدلة الشفاعة مخصصة لعموم الآية . قالوا : الفاسق لا يخرج من النار وإلا كان مخرجه ناصراً له .

/خ200