اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَيۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (192)

قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ } " من " شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدرَ الكلام ، و " تُدْخِل " مجزوم بها ، و{ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابٌ لها .

وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :

الأول : أن تكون " من " منصوبة بفعل مقدَّر ، يُفَسِّره قوله : { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وهذا غلطٌ ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسِّر على ما هو منصوب ، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط ؛ لأنه لا يتقدم على الشرط .

الثاني : أن تكون " مَنْ " مبتدأ ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ . وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم . وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع ؛ خبراً لِ " إنَّ " . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي ، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعل واحدٌ ، وإنما يتميز بالمصدرِ .

قال الواحديُّ : الإخزاء - في اللغة - يَرِد على معانٍ يقرب بعضُها من بعض .

قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده .

وقال غيره : أخزاه اللَّهُ : أي : أهانه .

وقال شمر : أخزاه اللَّهُ : أي : فضحه ، وفي القرآن : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] .

وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه .

وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة .

وقال الزمخشريُّ : " فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " أي : أبلغت في إخزائه .

فصل

قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن ؛ لأن صاحبَ الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللَّهُ ؛ لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] فوجب من [ مجموع هاتين ]{[6294]} الآيتين ألا يكون صاحب الكبيرةِ مؤمناً .

والجواب أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً ، وإنما يقتضي ألا يحصل الإخزاءُ حال ما يكونون مع النبيّ ، وهذا النفيُ لا يناقضه إثبات الإخزاء في الجملة ؛ لاحتمال أن يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ .

وأجاب الواحديُّ في " البسيط " بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ :

أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ ، والثوري ، وقتادة ، أن قوله : " فَقَدْ أخْزَيْتَهُ " مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ . وهذا الجوابُ ضعيفٌ ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ ، فإنَّما يدخلُها للخلودِ فيها .

وثانيها : أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله ، وإن كان عاقبته أن يخرج منها . وهذا -أيضاً - ضعيفٌ ؛ لأنَّ موضعَ الاستدلالِ أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } يدل على نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً ، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ .

وثالثها : أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن :

أحدهما : الإهانة والإهلاك . وثانيهما : التخجيل ، يقال : خَزِيَ خِزَايةً : إذا استحيا ، وأخزاهُ غيرُه : إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه .

قال ابنُ الخطيبِ : " واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ : أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعاً ، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] غير المثبت في قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وعلى هذا يسقط الاستدلالُ ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظاً متواطئاً ، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ ، سقط هذا الجوابُ ؛ لأن قوله : { لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } لنفي الجنس ، وقوله : " فقد أخزيته " لإثبات النوع ، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما " .

قال القرطبيُّ : " وقال أهل المعاني : الخِزي أن يكون بمعنى الحياء ، يقال : خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا ، فهو خَزْيان .

قال ذو الرمة : [ البسيط ]

خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ *** مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ{[6295]}

فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا ، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ ، والمؤمنون يموتون ، فافترقوا ، كذا ثبت في صحيح السنة ، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ ، أخرجه مسلمٌ " .

فصل

احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى ، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى ، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ ، وإنما قُلْنا : صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى ؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، والمؤمنُ لا يُخْزَى ، وإنما قلنا : إنه مؤمنٌ ؛ لقوله تعالى :

{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضاً قال تعالى :

{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً ، فثبت أنّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يُخْزَى ؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] ولقوله : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ آل عمران : 194 ] ، ثم قال : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ }

وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين ، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى ؛ لقوله تعالى : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .

والجوابُ : ما تقدم من أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ }

[ التحريم : 8 ] إنما يدل على نَفْي الإخزاء حال كونهم مع النَّبِيّ ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ .

فصل

عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع ، منها قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }

[ مريم : 71 ] ثم قال : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ } [ مريم : 72 ] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الخِزْي .

ومنها : أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونونَ في النَّارِ ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي ، قال تعالى :

{ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

[ التحريم : 6 ] .

قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } " مِنْ " زائدة ، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ ، وفي مجرورها وجهانِ :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً .

الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، لاعتماده على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميعِ .

فصل

تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق ؛ وذلك لأن الشفاعة ، نوع نُصْرَةٍ ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ ، والجوابُ من وجوهٍ :

أحدها : أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ ، قال تعالى :

{ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ البقرة : 254 ] ويؤكِّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100- 101 ] .

ثانيها : أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللَّهِ تَعَالَى ، قال تعالى : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللَّهِ تَعَالَى ، فقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله ، كما قال : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ }

[ الأنعام : 62 ] وقال : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .

فإن قيل : فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ .

فالجوابُ : بل فيه فائدةٌ ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ ، والنجاةِ من العقابِ ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك ، فصحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ .

ثالثها : أن هذه الآيةَ عامةٌ ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ .


[6294]:في أ: عموم.
[6295]:ينظر البيت في ديوانه 1/103 واللسان (خزا) وجمهرة أشعار العرب ص 771.