وبينما هذا المشهد معروض . القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون . ولوط يدافعهم ويستثير نخوتهم ، ويستجيش وجدانهم ، ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم ، وهم في سعارهم مندفعون . .
بينما المشهد البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد ، على طريقة العرب في كلامهم بالقسم :
( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) . .
لتصوير حالتهم الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا أن يسمعوا هواتف النخوة والتقوى والفطرة السليمة .
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم ، وما قد أحاط بهم من البلاء ، وماذا يُصبحهم من العذاب المستقر ؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أقسم تعالى بحياة نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، وفي هذا تشريف عظيم ، ومقام رفيع وجاه عريض .
قال عمرو بن مالك النُّكْري{[16206]} عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، أنه قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى : {[16207]} { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ يقول : وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفي سكرتهم يعمهون ]{[16208]} رواه ابن جرير .
وقال قتادة : { فِي سَكْرَتِهِمْ } أي : في ضلالتهم ، { يَعْمَهُونَ } أي : يلعبون .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لَعَمْرُكَ } لعيشك ، { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال : يتحيرون{[16209]}
وقوله : لَعَمْرُكَ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وحياتك يا محمد ، إن قومك من قريش لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول : لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوّزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما خلق الله وما ذرأ وما نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى ذكره : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرمي ، قال : حدثنا الحسين بن أبي جعفر ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قول الله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وهي كلمة من كلام العرب لفي سكرتهم : أي في ضلالتهم ، يعمهون : أي يلعبون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش ، عن قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : لفي غفلتهم يتردّدون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي سَكْرَتِهِمْ قال : في ضلالتهم . يَعْمَهُونَ قال : يلعبون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال مجاهد : يَعْمَهُونَ قال : يتردّدون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : لَعَمْرُكَ يقول : لعيْشُك . إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : يتمادَوْنَ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل : لعمري ، يرونه كقوله : وَحَيَاتِي .
{ لعمرُك } قسم بحياة المخاطب والمخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة والسلام وقيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك ، والتقدير لعمرك قسمي ، وهو لغة في العمر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم . { إنهم لفي سكرتهم } لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم . { يعمهون } يتحيرون فكيف يسمعون نصحك . وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض .
جملة { لعمرك إنهم لفي سكراتهم يعمهون } معترضة بين أجزاء القصة للعبرة في عدم جدوى الموعظة فيمن يكون في سكرة هواه .
والمخاطب بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى . وقيل هو من كلام الملائكة بتقدير قول .
وكلمة { لعمرك } صيغة قسم . واللام الداخلة على لفظ ( عمر ) لام القسم .
والعَمْر بفتح العين وسكون اللام أصله لغة في العُمر بضم العين ، فخص المفتوح بصيغة القسم لخفّته بالفتح لأن القسم كثير الدوران في الكلام . فهو قسم بحياة المخاطب به . وهو في الاستعمال إذا دخلت عليه لام القسم رفعوه على الابتداء محذوف الخبر وجوباً . والتقدير : لعمرك قَسمي .
وهو من المواضع التي يحذف فيها الخبر حذفاً لازماً في استعمال العرب اكتفاء بدلالة اللّام على معنى القسم . وقد يستعملونه بغير اللّام فحينئذٍ يقرنونه باسم الجلالة وينصبونهما ، كقول عُمر بن أبي ربيعة :
فنصَب عمرَ بنزع الخافض وهو ياء القسم ونَصب اسم الجلالة على أنه مفعولُ المصدر ، أي بتعميرك الله بمعنى بتعظيمك الله ، أي قولك للّهِ لعمرك تعظيماً لله لأن القسم باسم أحد تعظيم له ، فاستعمل لفظ القسم كناية عن التعظيم ، كما استعمل لفظ التحية كناية عن التعظيم في كلمات التشهد « التّحِيّات لله » أي أقسم عليك بتعظيمك ربّك . هذا ما يظهر لي في توجيه النصب ، وقد خالفت فيه أقوالَ أهل اللّغة بعضَ مخالفة لأدفع ما عرض لهم من إشكال .
والسكرة : ذهاب العقل . مشتقّة من السَكْر بفتح السين وهو السدّ والغلق . وأطلقت هنا على الضلال تشبيهاً لغلبة دواعي الهوى على دواعي الرشاد بذهاب العقل وغشيته .
و { يعمهون } يتحيّرون ولا يهتدون . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة ( 15 )