فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 72 ) }

{ لَعَمْرُكَ } العمر والعمر بالفتح والضم واحد لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم ؛ ذكر ذلك الزجاج وهو اسم لمدة عمارة بدن الإنسان بالحياة والروح وعيشه والبقاء مدة حياته في الدنيا ، والمعنى لعمرك قسمي أو يميني فحذف الخبر لدلالة الكلام عليه .

قال القاضي عياض : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال : قال المفسرون بأجمعهم : أقسم الله تعالى ههنا بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريفا له ، قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم البرية عنده .

وعن ابن عباس قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال { لعمرك } الآية يقول وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا وعيشك بها .

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال { لعمرك } الآية ) أخرجه ابن مردويه ، كذا في الدر المنثور للسيوطي .

قال ابن العربي : ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكل ما يعطيه الله سبحانه للوط من فضل يؤتى ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم على الله منه ، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرفع ، قال القرطبي : ما قاله حسن فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاما معترضا في قصة لوط عليه السلام .

فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سنين ونحو ذلك فما فيها من فضل ، وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه ، وقيل الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به ، أي وخالق التين وكذلك ما بعده ، وفي قوله : { لعمرك } أي وخالق عمرك .

وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول ، أي قالت الملائكة للوط لعمرك ، ثم قال : وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له . انتهى .

وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه ، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

{ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي أنهم لفي غوايتهم وشدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم يتحيرون ، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة ، والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والجملة اعتراض ، أو لقوم لوط على أن القسم بلوط ، قال قتادة : أي في ضلالهم يلعبون ، وقال الأعمش لفي غفلتهم يترددون ، وعمه من باب تعب كما في المختار .