روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

{ لَعَمْرُكَ } قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم ما عليه جمهور المفسرين .

وأخرج البيهقي في الدلائل . وأبو نعيم . وابن مردويه . وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى : { لَعَمْرُكَ } الخ ، وقيل : هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام ، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام : { لَعَمْرُكَ } الخ ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهداً له وقرينة عليه ، فلا يرد ما قاله «صاحب الفرائد » من أنه تقدي من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص ، وأياً ما كان فعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك ، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم ، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح ، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول ، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلاً ، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم ، ونقل ذلك عن الجوهري ، وقال ابن يعيش : لا يستعمل إلا فيه أيضاً وجاء شاذار عملي وعدوه من القلب ، وقال أبو الهيثم : معنى { لَعَمْرُكَ } لدينك الذي تعمل ويفسر بالعبادة ، وأنشد :

أيها المنكح الثريا سهيلا . . . عمرك الله كيف يلتقيان

أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال على ما نقل عن ابن الأعرابي عمرت ربي أي عبدته ، وفلان عامر لربه أي عابد ، وتركت فلاناً يعمر ربه أي يعبده وعهو غريب . وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه : الأصل عمرتك الله تعالى تعميراً فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافاً إلى مفعوله الأول ، ومعنى عمرتك أعطيتك عمراً بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني أعني الاسم الجليل فهو على هذا منصوب ، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلاً أي عمرك الله سبحانه تعميراً ، وجوز الرضى أن يكون عمرك فيه منصوباً على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين ، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لا فعلن ، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له ، ولا بأس بإضافة عمر إليه تعالى ، وقد جاء مضافاً كذلك قال الشاعر :

إذا رضيت على بنو قشير . . . لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى :

ولعمر من جعل الشهور علامة . . . منها تبين نقصها وكمالها

وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال : لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلى أبدى ، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك ، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم ، قال النابغة :

لعمري وما عمري على بهين . . . وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم ، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في { لَعَمْرُكَ } خطاباً بالشخص حلفاً بحيلة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله .

وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و { عُمُرِكَ } بدون لام { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } أي لفى غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم { يَعْمَهُونَ } يتحيرون فكيف يسمعون النصح ، وأصل العمة عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك ، والضمائر لأهل المديسنة ، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية ، وقيل : ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش ، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق ، ومن هنا قيل : الجملة اعتراض وجملة { يَعْمَهُونَ } حال من الضمير في الجار والمجرور ، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في { سَكْرَتِهِمْ } والعامل السكرة أو معنى الإضافة ، ولا يخفاك حاله ، وقرأ الأشهب { سَكْرَتِهِمْ } بضم السين ، وابن أبي عبلة { *سكراتهم } بالجمع ، والأعمش { *سكرهم } بغير تاء ، وأبو عمر وفي رواية الجهضمي { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } بفتح الهمزة ، وقال أبو البقاء : وذلك على تقدير زيادة اللام ، ومثله قراءة سعيد بن جبير { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } [ الفرقان : 20 ] بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم .

( ومن باب الإشارة ) :{ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] قال النووي : أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين ، وقال القرشي : هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله عليه وسلم . وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى