قوله { لَعَمْرُكَ } مبتدأ محذوف الخبر وجوباً ، ومثله : لايْمُن الله ، و " إنَّهُمْ " ، وما في حيزه جواب القسم ، تقديره : لعمرك قسمي ، أو يميني إنهم ، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم .
قال الزجاج{[19592]} : لأنه اخفُّ عليهم ، وهم يكثرون القسم ب " لعَمْرِي ولعَمْرُكَ " .
منها : أنه متى اقترن بلام الابتداء ؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء ، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه .
ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يتعيَّن فيه ، بخلاف غيره نحو : عَهْدُ اللهِ ومِيثَاقُه .
فإن لم يقترن به لام الابتداء ، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ ، نحو : عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان :
النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله ، وفي ذلك معنيان :
أحدهما : أن الأصل : أسألك بعمرك الله ، أي : بوصفك الله –تعالى- بالبقاء ، ثم حذف زوائد المصدر .
والثاني : أن المعنى : بعبادتك الله ، والعَمْرُ : العِبادةُ .
حكى ابن الأعرابي : إنِّي عمرتُ ربِّي ، أي : عبدته ، وفلان عامر لربِّه ، أي : عابده .
وأمَّا الرفع : فعلى أنه مضاف لمفعوله .
قال الفارسي رحمه الله : معناه : [ عَمَّرك ]{[19593]} الله تعميراً ، وقال الأخفش : أصله : أسْألك بِيُعمرك الله ، فحذف زوائد المصدر ، والفعل ، والياء ، فانتصب ، وجاز أيضاً ذكر خبره ، فتقول : عمرك قسمي لأقومن ، وجاز أيضاً ضمُّ عينه ، وينشد بالوجهين قوله : [ الخفيف ]
أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً *** عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ *** وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي{[19594]}
ويجوز دخول باء الجر عليه ؛ نحو : بعمرك لأفعلنَّ ؛ قال : [ الوافر ]
رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا *** ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا{[19595]}
وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، فلا يقطع عنها ، ويضاف لكل شيء ، وزعم بعضهم : أنه لا يضاف إلى الله –تعالى- .
قيل : كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع ، وقد سمع إضافته للباري تعالى . قال الشاعر : [ الوافر ]
إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ *** لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا{[19596]}
ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم ، قال لأنه حلف بحياة المقسم ، وقد ورد ذلك ، قال النابغة : [ الطويل ]
لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ *** لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ{[19597]}
وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه ، فقالوا : وعملي ، وهي رديئة .
" إنَّهُمْ " العامة على كسر " إنَّ " لوقوع اللام في خبرها ، وقرأ أبو عمرو{[19598]} في رواية الجهضمي له " أنَّ " فتحها ، وتخريجها على زيادة اللام ، وهي كقراءة ابن جبيرٍ ( ألا أنهم ليأكلون الطعام ] بالفتح .
وقرأ الأعمش : " سَكْرهُمْ " بغير تاء{[19599]} ، وابن أبي عبلة{[19600]} " سَكرَاتهِمِ " جمعاً ، والأشهب{[19601]} : " سُكْرتِهِم " بضم السين .
و " يَعْمَهُونَ " حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار ، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة ، والعامل إمَّا نفس سكرة ، لأنَّها مصدر ، وإمَّا معنى الإضافة .
قيل : إن الملائكة -عليهم السلام- قالت للوطٍ -صلوات الله وسلامه عليه- " لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ " : يتحيَّرون .
وقال قتادة : يلعبون{[19602]} فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك ؟ .
وقيل : إنَّ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ .
روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس -رضي الله عنهما- قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ{[19603]} .
قال ابن العربي : قال المفسرون بإجماعهم : أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون ، وقال القاضي عياضٌ : اتفق أهل التفسير في هذا : أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم وأصله ضمُّ العين من العمر ، ولكنها فتحت بكثرة .
قال ابن العربي : ما الذي يمنعُ أن يقسم الله –تعالى- بحياة لوطٍ ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلُّ ما يعطيه الله للوطٍ من فضل ، يعطي ضعفه لمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّه أكرم على الله منه ؛ أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة ، وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ ، فحياة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أرفعُ ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ .
قال القرطبيُّ{[19604]} : ما قاله حسنٌ ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط .
قال القشيريُّ : يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون ، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال : هؤلاء بناتي ، قالت الملائكة : يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً .
فإن قيل : فقد أقسم الله تعالى بالتِّين ، والزَّيتونِ ، وطور سنين ، وما في هذا من الفضل ؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به ، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده ، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.