الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (72)

قوله تعالى : { لَعَمْرُكَ } : مبتدأٌ ، محذوفٌُ الخبر وجوباً ، ومثلُه : لايْمُنُ الله . و " إنهم " وما في حَيِّزه جوابُ القسمِ تقديرُه : لَعَمْرك قسمي أو يميني إنهم . والعَمْر والعُمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنهم التزموا الفتح في القسم . قال/ الزجاج : " لأنَّه أَخَفُّ عليهم ، وهم يُكْثرون القَسَم ب " لَعَمْري " و " لَعَمْرك " . وله أحكامٌ كثيرة منها : أنه متى اقترن بلامِ الابتداء لَزِم فيه الرفعُ بالابتداءِ ، وحُذِفَ خبرُه ، لِسَدِّ جوابِ القسم مَسَدَّه . ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يَتَعَيَّن فيه ، بخلافِ غيرِه نحو : عهدُ الله وميثاقُه . ومنها : أنه يَلْزَمُ فَتْحُ عينِه ، فإن لم يقترنْ به لامُ الابتداء جاز نصبُهُ بفعل مقدر نحو : عَمْرَ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذ في الجلالةِ وجهان : النصبُ والرفعُ ، فالنصبُ على أنه مصدرٌ مضافٌ لفاعله وفي ذلك معنيان ، أحدهمل : أنَّ الأصلَ : أسألُكَ بتعميرك اللهَ . أي : بوصِفك اللهَ تعالى بالبقاء ، ثم حُذِف زوائدُ المصدرِ . والثاني : أن المعنى : عبادتك الله ، والعَمْر : العبادة ، حكى ابن الأعرابي " عَمَرْتُ ربي " ، أي : عَبَدْته ، وفلانٌ عامِرٌ ربِّه ، أي : عابدُه .

وأمَّا الرفعُ : فعلى أنه مضافٌ لمفعولِه . قال الفارسي : " معناه : عَمَّرَك اللهُ تَعْميراً " . وقال الأخفش : " أصله : أسألك بتعميرك اللهَ ، فحُذِفَ زوائدُ المصدرِ والفعلُ والباءُ فانتصب ، وجاز أيضاً ذِكْرُ خبرِهِ فتقول : عَمْرُك قَسَمي لأقومَنَّ ، وجاز أيضاً ضَمُّ عينِه ، ويُنْشِدُ بالوجهين قولُه :

أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً *** عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ

ويجوزُ دخولُ باءِ الجرِّ عليه ، نحو : بعَمْرِكَ لأفعلَنَّ . قال :

رُقَيَّ بعَمْرِكُمْ لا تَهْجُرِينا *** ومَنَّيْنا المُنَى ثم امْطُلِينا

وهو من الأسماء اللازمة للإِضافة ، فلا يُقطع عنها ، ويُضاف لكلِّ شيءٍ . وزعم بعضُهم أنه لا يُضاف إلى الله . قيل : كأنَّ قائل هذا تَوَهَّم أنه لا يُسْتعمل إلا في الانقطاع ، وقد سُمع إضافُته للباري تعالى . قال الشاعر :

إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ *** لعَمْرُ اللهِ أَعْجبني رِضاها

ومَنَع بعضُهم إضافتَه إلى ياءِ المتكلمِ قال : لأنه حَلْفٌ بحياة المُقْسِم ، وقد وَرَدَ ذلك ، قال النابغة :

لَعَمْري -وما عَمْري عليَّ بهَيِّنٍ- *** لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأقارِعُ

وقد قَلَبَتْه العربُ بتقديمِ رائِه على لامه فقالوا : " رَعَمْلي " ، وهي ردئيةٌ .

والعامَّة على كسرِ " إنَّ " لوقوعِ اللامِ في خبرها . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ الجَهْضَمِيِّ بفتحها . وتخريجُها على زيادةِ اللامِ وهي كقراءة ابن جبير : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } [ الفرقان : 20 ] بالفتح .

والأعمش : " سَكْرِهم " دون تاءٍ . وابن أبي عبلة " سَكَراتهم " جمعاً . والأشهبُ " سُكْرَتِهم " بضم السين .

و " يَعْمَهُون " حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ ، وإمَّا من الضميرِ المجرورِ بالإِضافةِ . والعامل : إمَّا نفسُ " سَكْرَة " لأنها مصدرٌ ، وإمَّا معنى الإِضافة .