فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة ، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان :
( قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ ) . .
وجاءها الجواب ، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل ، ومألوفهم المحدود :
( قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن فيكون ) . .
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب ، وتزول الحيرة ، ويطمئن القلب ؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب : كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب ! !
وهكذا كان القرآن ينشىء التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة ، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بَغيا ؟ حاشا لله . فقال لها الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ، لا يعجزه شيء . وصرح هاهنا بقوله : { يَخْلُقُ } ولم يقل : " يفعل " كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر{[5047]} شيئًا ، بل يوجد عقيب{[5048]} الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر{[5049]} .
{ قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قالت مريم إذ قالت لها الملائكة : إن الله يبشرك بكلمة منه : ربّ أنى يكون لي ولد : من أي وجه يكون لي ولد ؟ أمن قِبَل زوج أتزوّجه وبعل أنكحه ؟ أو تبتدىء في خلقه من غير بعل ولا فحل ، ومن غير أن يمسني بشر ؟ فقال الله لها : { كَذَلِك اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ } يعني : هكذا يخلق الله منك ولدا لك من غير أن يمسك بشر ، فيجعله آية للناس وعبرة ، فإنه يخلق ما يشاء ، ويصنع ما يريد ، فيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل ، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل ، لأنه لا يتعذّر عليه خلق شيء أراد خلقه ، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد ، فيقول له كن فيكون ما شاء مما يشاء ، وكيف شاء . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { قَالَتْ رَبّ أنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } : يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر : أي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، مما يشاء ، وكيف يشاء ، فيكون ما أراد .
{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } تعجب ، أو استبعاد عادي ، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره . { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } القائل جبريل ، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى . { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك .
قوله : { قالت رب } جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة .
والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله .
والاستفهام في قولها { أنى يكون لي ولد } للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب بجوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها .
وجملة { قال كذلك الله يخلق } إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } ومابعدها في سورة البقرة ( 30 ) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي .
واسم الإشارة في قوله : { كذلك } راجع إلى معنى المذكور في قوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله { وكهلا } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء . وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : { الله يخلق } لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر .
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشىء عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت .