إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَتۡ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ إِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (47)

{ قَالَتْ } استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كأنه قيل : فماذا قالت مريمُ حين قالت لها الملائكةُ ما قالت ؟ فقيل : قالت متضرعةً إلى ربها : { رَبّ أنى يَكُونُ } أي كيف يكونُ أو من أين يكون { لِي وَلَدٌ } على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظامِ قدرةِ الله عز وجل وقيل : على وجه الاستفهامِ والاستفسارِ بأنه بالتزوج أو بغيره يكون الولدُ ، ويكون إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها ، وتأخيرُ الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر ، ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقع حالاً من ولد إذ لو تأخرَ لكان صفة له ، وإما ناقصةٌ واسمُها ولد وخبرها إما أنى واللامُ متعلقةٌ بمضمر وقع حالاً كما مر ، أو خبر وأنى نصبَ على الظرفية وقوله تعالى : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } جملةٌ حالية محقّقةٌ للاستبعاد أي والحال أني على حالة منافيةٍ للولادة { قَالَ } استئنافٌ كما سلف والقائلُ هو الله تعالى أو جبريلُ عليه الصلاة والسلام { كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء } الكلامُ في إعرابه كما مر في قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد { يَخْلُقُ } ها هنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فانٍ ، فكان الخلقُ المُنبئ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ، ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل : { إِذَا قَضَى أَمْرًا } من الأمور أي أراد شيئاً كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس ، الآية 82 ] وأصلُ القضاءِ الأحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية القطعيةِ المتعلقةِ بوجود الشيءِ لإيجابها إياه البتةَ ، وقيل : الأمرُ ومنه قوله تعالى : { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء ، الآية 23 ]

{ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ } لا غيرُ { فَيَكُونُ } من غير تريثٍ وهو كما ترى تمثيلٌ لكمال قدرته تعالى وسهولةِ حصولِ المقدوراتِ حسبما تقتضيه مشيئتُه وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم فيها من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمرِ القويّ المطاعِ ، وبيانٌ لأنه تعالى كما يقدِر على خلق الأشياءِ مُدرَجاً بأسباب وموادَّ معتادةٍ يقدِر على خلقها دفعةً من غير حاجة إلى شيء من الأسباب والمواد .