)ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ، ومن كل الثمرات . إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون(
ثم الزروع التي يأكل منها الإنسان مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار . .
إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون . . في تدبير الله لهذا الكون ، ونواميسه المواتية لحياة البشر ، وما كان الإنسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته ، موافقة لفطرته ، ملبية لحاجاته . وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق الإنسان في هذا الكوكب الأرضي ، وأن تكون النسب بين هذا الكوكب وغيره من النجوم والكواكب هي هذه النسب ، وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه ، ممكنة للإنسان من الحياة ، ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه .
والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير ، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار ، وبين النواميس العليا للوجود ، ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره . أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء ، في الصيف والشتاء ، فلا توقظ تطلعهم ، ولا تثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد .
وقوله : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد ، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ؛ ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ]
{ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزّرْعَ وَالزّيْتُونَ وَالنّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : يُنبت لكم ربكم بالماء الذي أنزل لكم من السماء زرعَكم وزيتونَكم ونخيلكم وأعنابكم ومِنْ كُلّ الثّمراتِ يعني من كلّ الفواكه غير ذلك أرزاقا لكم وأقواتا وإداما وفاكهة ، نعمة منه عليكم بذلك وتفضّلاً ، وحُجة على من كفر به منكم . إنّ فِي ذلكَ لاَيَةً يقول جلّ ثناؤه : إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم لاَيةً يقول : لدلالة واضحة وعلامة بينة ، لقومٍ يَتَفَكّرُونَ يقول : لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكّرون في حججه ، فيتذكرون وينيبون .
{ يُنبت لكم به الزرع } وقرأ أبو بكر بالنون على التفخيم . { والزيتون والنخيل والأعناب من كل الثمرات } وبعض كلها إذا لم ينبت في الأرض كل ما يمكن من الثمار ، ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لأنه سيصير غذاء حيوانيا هو أشرف الأغذية ، ومن هذا تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } على وجود الصانع وحكمته ، فإن من تأمل أن الحبة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجرة ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها . ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطباع مع اتحاد المواد ونسبة الطبائع السفلية والتأثيرات الفلكية إلى الكل ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ولعل فصل الآية به .
وقرأ الجمهور «ينبت » بالياء على معنى ينبت الله ، يقال نبت الشجر وأنبته الله ، وروي أنبت الشجر بمعنى نبت ، وكان الأصمعي يأبى ذلك ويتمم قصيدة زهير التي فيها : حتى إذا أنبت البقل{[7264]} ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، «ننبت » بنون العظمة ، وخص عز وجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع ، ثم عم بقوله { من كل الثمرات } ، ثم أحال القول على الفكرة في تصاريف النبات والأشجار وهي موضع عبر في ألوانها واطراد خلقها وتناسب ألطافها ، فسبحان الخلاق العليم .
جملة { ينبت } حال من ضمير { أنزل } [ سورة النحل : 10 ] ، أي ينبت الله لكم .
وإنما لم يعطف هذا على جملة { لكم منه شراب } [ سورة النحل : 10 ] لأنّه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لا بدّ معه من زرع وغرس .
وهذا الإنبات من دلائل عظيم القدرة الربّانية ، فالغرض منه الاستدلال ممزوجاً بالتذكير بالنّعمة ، كما دلّ عليه قوله : { لكم } على وزان ما تقدم في قوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } [ سورة النحل : 5 ] الآية ، وقوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها } [ سورة النحل : 8 ] الآية .
وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيهاً للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم ، ولذلك قال : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق .
وذكر الزرع والزيتون وما معهما تقدم غير مرة في سورة الأنعام .
والتفكّر تقدم عند قوله تعالى : { قل هل يستوي الأعمى والبصيرأفلا تتفكرون } في سورة الأنعام ( 50 ) .
وإقحام لفظ قوم للدلالة على أن التفكّر من سجاياهم ، كما تقدم عند قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) .
و{ من كل الثمرات } عطف على { الزرع والزيتون } ، أي وينبت لكم به من كل الثمرات مما لم يذكر هنا .
والتعريف تعريف الجنس . والمراد : أجناس ثمرات الأرض التي ينبتها الماء ، ولكل قوم من الناس ثمرات أرضهم وجَوّهم . و { من } تبعيضية قصد منها تنويع الامتنان على كل قوم بما نالهم من نعم الثمرات . وإنما لم تدخل على الزرع وما عطف عليه لأنها من الثمرات التي تنبت في كل مكان .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } تذييل .
والآية : الدلالة على أنه تعالى المبدع الحكيم . وتلك هي إنبات أصناف مختلفة من ماء واحد ، كما قال : { تسقى بماء واحد } في سورة الرعد ( 4 ) .
ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج . وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرّد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون .
وقرأ الجمهور { ينبت } بياء الغيبة . وقرأه أبو بكر عن عاصم بنون العظمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ينبت لكم به} بالمطر، {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية}، فيما ذكر لكم من النبات لعبرة، {لقوم يتفكرون}، في توحيد الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يُنبت لكم ربكم بالماء الذي أنزل لكم من السماء زرعَكم وزيتونَكم ونخيلكم وأعنابكم "ومِنْ كُلّ الثّمراتِ "يعني من كلّ الفواكه غير ذلك أرزاقا لكم وأقواتا وإداما وفاكهة، نعمة منه عليكم بذلك وتفضّلاً، وحُجة على من كفر به منكم.
"إنّ فِي ذلكَ لآيَةً" يقول جلّ ثناؤه: إن في إخراج الله بما ينزل من السماء من ماء ما وصف لكم "لآية" يقول: لدلالة واضحة وعلامة بينة، "لقومٍ يَتَفَكّرُونَ" يقول: لقوم يعتبرون مواعظ الله ويتفكّرون في حججه، فيتذكرون وينيبون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي ينبت لكم بالماء الذي ذكر أنه أنزله من السماء الزرع والزيتون وجميع ما ذكر بلطفه إذ هو لقاح كل الأشياء المختلفة والمتفقة... وجعل في الماء بلطفه سرية توافق جميع الأشياء المختلفة، لو اجتمع الخلائق على إدراك ذلك، وإن اجتهدوا، لم يقدروا عليه؛ يعرفون الماء ظاهرا، ولكن لا يدركون ما فيه من اللطف والسرية الذي به تكون حياة كل أحد وموافقته.
وقوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} ذكر أن فيه آية {لقوم يتفكرون} ولم يذكر أنه لماذا؟ لكنه ذكر أنه آية {لقوم يتفكرون} بالتفكر يعرف أنه آية لماذا؟ وهذا يدل على الأشياء التي غابت عنا ظواهرها؛ بالتفكر والنظر تدرك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي ينبت بذلك المطر هذه الأشياء التي عددها لينتفعوا بها. ثم أخبر أن في ذلك لدلالة وحجة واضحة لمن يفكر فيه، فيعرف الله به، وإنما أضاف الدلالة إليهم، لأنهم الذين انتفعوا بها، ولأن من لم يفكر فيها فكأنها لم تنصب له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ثم قال بعده بآيات: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ثم قال بعده: {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، وعلى هذا الترتيب تحصل المعرفة؛ فأولاً التفكر ثم العلم ثم التذكر، أولاً يضع النظر موضعه فإذا لم يكن في نظره خَلَلٌ وجب له العلم لا محالة، ولا فرق بين العلم والعقل في الحقيقة، ثم بعده استدامة النظر وهو التذكر. ويقال إنما قال: {لآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: على الجمع لأنه يحصل له كثير من العلوم حتى يصير عارفاً بربِّه آياتُ ودلائل، لأن دليل هذه المسألة خلاف دليل تلك المسألة، فبدليل واحد يعلم وَجْهَ النظر، وبأدلة كثيرة يصير عارفاً بربه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم قيل {وَمِن كُلّ الثمرات}؟ قلت: لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعضا من كلها للتذكرة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وخص عز وجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع، ثم عم بقوله {من كل الثمرات}..
اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات... والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة، وأما الغذاء النباتي فقسمان: حبوب وفواكه؛ أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون والنخيل والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم. وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل، ثم قال في صفة البقية: {ويخلق ما لا تعلمون} فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في صفة البقية: {ومن كل الثمرات} تنبيها على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60]
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الشجر عاماً، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه: {ينبت} أي هو سبحانه {لكم} أي خاصة {به} مع كونه واحداً في أرض واحدة {الزرع} الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً، {والزيتون} الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى: {والنخيل} ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى: {والأعناب} وهما من أوسط ذلك {ومن كل الثمرات} وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه. {إن في ذلك} أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة {لآية} بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته -لقربه وسهولة ملابسته- ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى: {لقوم يتفكرون} أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء -كما قال تعالى في آية
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض بطريق الاستئنافِ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالة على التجدد والاستمرار وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور، أو لاستحضار صورةِ الإنبات، وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداءً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في تدبير الله لهذا الكون، ونواميسه المواتية لحياة البشر، وما كان الإنسان ليستطيع الحياة على هذا الكوكب لو لم تكن نواميس الكون مواتية لحياته، موافقة لفطرته، ملبية لحاجاته. وما هي بالمصادفة العابرة أن يخلق الإنسان في هذا الكوكب الأرضي، وأن تكون النسب بين هذا الكوكب وغيره من النجوم والكواكب هي هذه النسب، وأن تكون الظواهر الجوية والفلكية على ما هي عليه، ممكنة للإنسان من الحياة، ملبية هكذا لحاجاته على النحو الذي نراه. والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما ينشئه على الأرض من حياة وشجر وزروع وثمار، وبين النواميس العليا للوجود، ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره. أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء، فلا توقظ تطلعهم، ولا تثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {ينبت} حال من ضمير {أنزل} [سورة النحل: 10]، أي ينبت الله لكم. وإنما لم يعطف هذا على جملة {لكم منه شراب} [سورة النحل: 10] لأنّه ليس مما يحصل بنزول الماء وحده بل لا بدّ معه من زرع وغرس. وهذا الإنبات من دلائل عظيم القدرة الربّانية، فالغرض منه الاستدلال ممزوجاً بالتذكير بالنّعمة، كما دلّ عليه قوله: {لكم} على وزان ما تقدم في قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [سورة النحل: 5] الآية، وقوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} [سورة النحل: 8] الآية. وأسند الإنبات إلى الله لأنه الملهم لأسبابه والخالق لأصوله تنبيهاً للناس على دفع غرورهم بقدرة أنفسهم، ولذلك قال: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} لكثرة ما تحت ذلك من الدقائق.
وإقحام لفظ قوم للدلالة على أن التفكّر من سجاياهم، كما تقدم عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164).
ونيطت دلالة هذه بوصف التفكير لأنها دلالة خفية لحصولها بالتدريج. وهو تعريض بالمشركين الذين لم يهتدوا بما في ذلك من دلالة على تفرّد الله بالإلهية بأنهم قوم لا يتفكرون.
...ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} أي: على الإنسان أن يعمل فكره في معطيات الكون، ثم يبحث عن موقفه من تلك المعطيات، ويحدد وضعه ليجد نفسه غير فاعل؛ وهو قابل لأن يفعل. وشاء الحق سبحانه أن يذكرنا أن التفكير ليس مهمة إنسان واحد بل مهمة الجميع، وكأن الحق سبحانه يريد لنا أن تتساند أفكارنا؛ فمن عنده لقطة فكرية تؤدي إلي الله لابد أن يقولها لغيره. ونجد في القرآن آيات تنتهي بالتذكر والتفكر وبالتدبر وبالتفقه، وكل منها تؤدي إلي العلم اليقيني؛ فحين يقول "يتذكرون "فالمعنى أنه سبق الإلمام بها؛ ولكن النسيان محاها؛ فكأن من مهمتك أن تتذكر. أما كلمة "يتفكرون" فهي أم كل تلك المعاني؛ لأنك حين تشغل فكرك تحتاج إلي أمرين، أن تنظر إلى معطيات ظواهرها ومعطيات أدبارها. ولذلك يقول الحق سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن} (سورة النساء 82) وهذا يعني ألا تأخذ الواجهة فقط، بل عليك أن تنظر إلى المعطيات الخلفية كي تفهم، وحين تفهم تكون قد عرفت، فالمهمة مكونة من أربع مراحل؛ تفكر، فتدبر، فتفقه؛ فمعرفة وعلم.