نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (11)

ولما كان الشجر عاماً ، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت ، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار ، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه : { ينبت } أي هو سبحانه { لكم } أي خاصة { به } مع كونه واحداً في أرض واحدة { الزرع } الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً ، { والزيتون } الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً .

ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر ، سماه باسمه فقال تعالى : { والنخيل } ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة ، قال تعالى : { والأعناب } وهما من أوسط ذلك { ومن كل الثمرات } وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة ، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه { إن في ذلك } أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه ، أو في إنزاله على الصفة المذكورة { لآية } بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده .

ولما كان ذلك ممن يحس ، وكان شغل الحواس بمنفعته - لقربه وسهولة ملابسته - ربما شغل عن الفكر في المراد به ، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر ، قال تعالى : { لقوم يتفكرون * } أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار ، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه ، وهو الماء - كما قال تعالى في آية

{ تسقى بماء واحد }[ الرعد :4 ] وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق ، لما قال تعالى

{ فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون }[ الحجر :92 ] وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين { فسوف يعلمون } أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى

{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه }[ النحل :1 ] وزاد هذا بياناً قوله { سبحانه وتعالى عما يشركون } فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم ، وأتبع ذلك تنزيهاً وتعظيماً فقال تعالى { خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون } ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته { خلق الإنسان من نطفة } ثم أبلغه تعالى حداً يكون فيه الخصام والمحاجة ، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب ، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة ، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها ، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته ، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله { ولو شاء لهداكم أجمعين } فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله ، وأنه أوجد الكل من واحد ، وابتدأهم ابتداء واحداً { خلق الإنسان من نطفة } فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك ، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله { وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر - إلى قوله : لآية لقوم يتفكرون } انتهى .