مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (11)

أما قوله تعالى : { ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } ففيه مباحث :

البحث الأول : هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان : أحدهما : معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات ، وهو المراد من قوله : { فيه تسيمون } . والثاني : ما كان مخلوقا لأكل الإنسان وهو المراد من قوله : { ينبت لكم به الزرع والزيتون } .

فإن قيل : إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات ، وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان ، وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان ، ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال : { كلوا وارعوا أنعامكم } فما الفائدة فيه ؟

قلنا : أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى ، فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » .

البحث الثاني : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { ننبت } بالنون على التفخيم والباقون بالياء ، قال الواحدي : والياء أشبه بما تقدم .

البحث الثالث : اعلم أن الإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء ، والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات . والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي ، لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي ، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الاسامة ، وأما الغذاء النباتي فقسمان : حبوب . وفواكه ، أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون . والنخيل . والأعناب ، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج ، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل ، ثم قال في صفة البقية : { ويخلق ما لا تعلمون }

فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في صفة البقية : { ومن كل الثمرات } تنبيها على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات ، فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل .

ثم قال : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } وههنا بحثان :

البحث الأول : في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول : إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها ، فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء . ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ، ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ، ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب ، فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان .

إذا عرفت هذا فنقول : نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة . ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة ، فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة .

البحث الثاني : أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله : { لقوم يتفكرون } والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه : { أنزل من السماء ماء فأنبت به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال : إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ؟ وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاما وافيا بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقيا ، فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله : { لقوم يتفكرون } .