اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (11)

قوله تعالى : { يُنْبِتُ لَكُمْ } تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة ، كما في نظيرتها ، ويقال : أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت ، وقياسه : مُنْبَت . وقيل : أنْبتَ قد يجيء لازماً ، ك " نَبَتَ " ؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]

3305-رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ***قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ{[19730]}

وأباه الأصمعيُّ ؛ والبيت حجة عليه ، وتأويله : ب " أنبت " البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا .

وقرأ أبو بكر{[19731]} " نُنْبِتُ " بنون العظمة ، والزهري " تنَبِّتُ " بالتشديد ، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي ، وقيل : بل للتَّكرير ، وقرأ أبي : " تُنْبُتُ " بفتح الياء وضمِّ الباءِ . " الزَّرْعَ " وما بعده رفع بالفاعلية ، وتقدم خلافُ القراء في رفع " الشَّمْس " وما بعدها ونصبها ، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف .

فصل

النبات قسمان :

أحدهما : لرعي الأنعام ؛ وهو المراد من قوله " تُسِيمُونَ " .

والثاني : المخلوق لأكل الإنسانِ ؛ وهو المراد من قوله : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } .

فإن قيل : إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [ الحيوان ]{[19732]} وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ ، وفي آية أخرى عكس الترتيب ؛ فقال : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم } [ طه : 54 ] فما الفائدة فيه ؟ .

فالجواب : أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق ؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده ، أكمل من اهتمامه بنفسه ، وأمَّا الآية الأخرى ، فمبنيةٌ على قوله - عليه الصلاة والسلام- : " ابْدَأ بِنَفْسِكَ ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ " {[19733]} .

فصل

اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء ، والغذاء ، إمَّا من الحيوانات ، وإمَّا من النبات ، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي ؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [ أكل ] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات ؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم ، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي ؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ .

وأمَّا الغذاء النباتيُّ ، فقسمان : حبوب ، وفواكه : أمَّا الحبوب ، فإليها الإشارة بقوله : " الزَّرْعَ " ، وأما الفواكه ، فأشرفها : الزيتونُ ، والنَّخيلُ ، والأعناب أما الزيتون ؛ فلأنه فاكهة من وجه ، وإدامٌ من وجه آخر ؛ لما فيه من الدهنِ ، ومنافع الدهنِ كثيرة : للأكلِ ، والطلاءِ ، وإشعالِ السِّراج .

وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه ، فظاهر معلوم ، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل ، ثم وصف البقية بقوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] فكذلك ههنا ، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات ، قال في وصف البقية : { وَمِن كُلِّ الثمرات } تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها ، وأجناسها ، وصفاتها ، ومنافعها ، ما لم يكن ذكره ، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ ، ثم قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .

واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى - : هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين ، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها ؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء ، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [ قعرِ ]{[19734]} الأرض ؛ وهي عروقُ الشجرِ ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ ، وتنمو وتقوى ، ثم يخرج منها الأوراق ، والأزهارُ ، والأكمام ، والثمار ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع ؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان ، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ، ونسبة التأثيرات الفلكية ، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة ، فمع تشابه هذه الأشياء ، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع ، والطَّعم ، واللَّون ، والرائحة ، والصفة ؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ .

وختم هذه الآية بقوله : { يَتَفَكَّرُونَ } لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء ، فأنبت به الزرع ، والزيتون ، والنخيل ، والأعناب ، فكأنَّ قائلاً قال : لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها ، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب ، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب ، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً ، فلهذا ختم الآية بقوله : { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .


[19730]:البيت لزهير بن أبي سلمى. ينظر: ديوانه ص 111، جمهرة اللغة ص 257 ، 1262، خزانة الأدب 1/50، شرح شواهد المغني 1/314، لسان العرب (نبت)، المحتسب 2/89، مغني اللبيب 1/102، معاني الفراء 2/233، القرطبي 10/ 55، البحر المحيط 5/464، الدر المصون 4/316.
[19731]:ينظر: السبعة 370، والتيسير 137، والحجة 386، والنشر 2/302، والإتحاف 2/181، والبحر 5/464، والدر المصون 4/316.
[19732]:في أ: الحيوانات.
[19733]:تقدم.
[19734]:في أ: تخوم.