فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة ، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة . واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان :
( قالت : رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ؟ ) . .
وجاءها الجواب ، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل ، ومألوفهم المحدود :
( قال : كذلك الله يخلق ما يشاء . إذا قضى أمرا فإنما يقول له : كن فيكون ) . .
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب ، وتزول الحيرة ، ويطمئن القلب ؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب : كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب ! !
وهكذا كان القرآن ينشىء التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب . وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة ، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء . .
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بَغيا ؟ حاشا لله . فقال لها الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ، لا يعجزه شيء . وصرح هاهنا بقوله : { يَخْلُقُ } ولم يقل : " يفعل " كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر{[5047]} شيئًا ، بل يوجد عقيب{[5048]} الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر{[5049]} .
{ قَالَتْ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قالت مريم إذ قالت لها الملائكة : إن الله يبشرك بكلمة منه : ربّ أنى يكون لي ولد : من أي وجه يكون لي ولد ؟ أمن قِبَل زوج أتزوّجه وبعل أنكحه ؟ أو تبتدىء في خلقه من غير بعل ولا فحل ، ومن غير أن يمسني بشر ؟ فقال الله لها : { كَذَلِك اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ } يعني : هكذا يخلق الله منك ولدا لك من غير أن يمسك بشر ، فيجعله آية للناس وعبرة ، فإنه يخلق ما يشاء ، ويصنع ما يريد ، فيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل ، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل ، لأنه لا يتعذّر عليه خلق شيء أراد خلقه ، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد ، فيقول له كن فيكون ما شاء مما يشاء ، وكيف شاء . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { قَالَتْ رَبّ أنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } : يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر : أي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، مما يشاء ، وكيف يشاء ، فيكون ما أراد .
{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } تعجب ، أو استبعاد عادي ، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره . { قال كذلك الله يخلق ما يشاء } القائل جبريل ، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى . { إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك .
وقول مريم : { ربِّ أنّى يكون لي ولد } استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها ، و{ يمسسني } ، معناه يطأ ويجامع ، والمسيس الجماع ، ومريم لم تنف مسيس الأيدي ، والإشارة بقوله : { كذلك } يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة ، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها ، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام ، وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا ، { يخلق } من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل وقصة مريم لا تتعارف البتة ، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه ، وروي أن عيسى عليه السلام ، ولد لثمانية أشهر فلذلك لا يعيش من يولد من غيره لمثل ذلك ، وقوله تعالى : { إذا قضى } معناه إذا أراد إيجاده ، والأمر واحد الأمور وهو مصدر سمي به ، والضمير في { له } عائد على الأمر والقول على جهة المخاطبة ، قال مكي : وقيل المعنى يقول لأجله ، وهذا ينحو إلى ما نورده عن أبي علي بعد ، وقرأ جمهور السبعة «فيكونُ » بالرفع ، وقرأ ابن عامر وحده «فيكونَ » بالنصب ، فوجه الرفع العطف على { يقول } ، أو تقدير فهو يكون ، وأما قراءة ابن عامر فغير متجهة لأن الأمر المتقدم خطاب للمقضي وقوله : { فيكون } ، خطاب للمخبر ، فليس كقوله قم فأحسن إليك ، لكن وجهها أنه راعى الشبه اللفظي في أن تقدم في الكلام لفظ أمر كما قال أبو الحسن الأخفش في نحو قوله تعالى :
{ قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة }{[3177]} إنه مجرى جواب الأمر ، وإن لم يكن جواباً في الحقيقة ، فكذلك على قراءة ابن عامر يكون قوله ، فيكون بمنزلة جواب الأمر وإن لم يكن جواباً ، وذهب أبو علي في هذه المسألة إلى أن القول فيها ليس بالمخاطبة المحضة ، وإنما هو قول مجازي كما قال :
امتلأ الحوض وقال قطني{[3178]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وغير ذلك ، قال : لأن المنتفي ليس بكائن فلا يخاطب كما لا يؤمر ، وإنما المعنى فإنما يكونه فهو يكون ، فهذه نزعة اعتزالية{[3179]} غفر الله له .
قوله : { قالت رب } جملة معترضة ، من كلامها ، بين كلام الملائكة .
والنداء للتحسر وليس للخطاب : لأنّ الذي كلمها هو الملك ، وهي قد توجهت إلى الله .
والاستفهام في قولها { أنى يكون لي ولد } للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب بجوابين أحدهما كذلك الله يخلق ما يشاء فهو لرفع إنكارها ، والثاني إذا قضى أمراً إلخ لرفع تعجّبها .
وجملة { قال كذلك الله يخلق } إلخ جواب استفهامها ولم تعطف لأنّها جاءت على طريقة المحاورات كما تقدم في قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } ومابعدها في سورة البقرة ( 30 ) والقائل لها هو الله تعالى بطريق الوحي .
واسم الإشارة في قوله : { كذلك } راجع إلى معنى المذكور في قوله : { إن الله يبشرك بكلمة منه إلى قوله { وكهلا } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي مثل ذلك الخلق المذكور يخلق الله ما يشاء . وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله : { الله يخلق } لإفادة تقوى الحكم وتحقيق الخبر .
وعبر عن تكوين الله لعيسى بفعل يَخْلق : لأنّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادة لإيجاد مثله ، فهو خلْق أنُفٌ غيرُ ناشىء عن أسباب إيجاد الناس ، فكان لفعل يخلُق هنا موقعٌ متعين ، فإنّ الصانع إذا صنع شيئاً من موادّ معتادة وصنعة معتادة ، لا يقول خلَقْت وإنما يقول صَنَعت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالت ربي أنى}: يعني من أين {يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}: يعني الزوج.
{قال كذلك الله يخلق ما يشاء}: ويخلق من يشاء، فشاء أن يخلق ولدا من غير بشر، لقولها:
{ولم يمسسني بشر}. {إذا قضى أمرا}؛ كان في علمه أن يكون عيسى في بطن مريم من غير بشر {فإنما يقول له كن فيكون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قالت مريم إذ قالت لها الملائكة:"إن الله يبشرك بكلمة منه": "ربّ أنى يكون لي ولد": من أي وجه يكون لي ولد؟ أمن قِبَل زوج أتزوّجه وبعل أنكحه؟ أو تبتدئ في خلقه من غير بعل ولا فحل، ومن غير أن يمسني بشر؟ فقال الله لها: {كَذَلِك اللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}: هكذا يخلق الله منك ولدا لك من غير أن يمسك بشر، فيجعله آية للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء، ويصنع ما يريد، فيعطي الولد من شاء من غير فحل ومن فحل، ويحرم ذلك من يشاء من النساء وإن كانت ذات بعل، لأنه لا يتعذّر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئا ما أراد، فيقول له "كن فيكون "ما شاء مما يشاء، وكيف شاء. فيكون ما أراد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}؛ عرفت مريم أن الولد يكون بمس البشر، وعلمت أنها لم تتزوج، ولم يمسسها بشر أبدا لأنها {قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك، فما مسها في حادث الوقت، فيكون لها منه الولد. فلما لم يقل لها: يمسك، ولكن {قال كذلك الله يخلق ما يشاء} دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبدا لأنها كانت محررة لله ومخلصة له في العبادة،... ويحتمل قوله: {أنى يكون لي ولد} أي من أي وجه يكون لي ولد؟ بالهبة؟ لأنها بشرت أن يوهب لها ولد، فقالت: من أي وجه يكون لي ولد {ولم يمسسني بشر}؟ ثم {قال كذلك الله يخلق ما يشاء} تأويله ما ذكر في سورة مريم حيث {قالت أنى يكون لي غلام} الآية [20] ثم {قال كذلك قال ربك هو علي هين} الآية [21] أي خلق الخلق علي هين بأب وغير أب، وبمس وبغير مس، وبسبب وبغير سبب، على ما خلق آدم بغير أب ولا أم...
وقوله تعالى: {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} أي إذا قضى أحد أو بتكوين شيء {فإنما يقول له كن فيكون} لا يثقل عليه ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم كقوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} [لقمان: 28]... أي خلق الخلق كلهم ابتداء وبعضهم بعد الموت كخلق نفس واحدة أن يقول {له كن فيكون} وإنما يثقل ذلك على الخلق، ويصعب لموانع وأشغال تشغلهم، فأما الله سبحانه وتعالى تعالى عن أن يشغله شغل، ويمنعه مانع، أو يحجب عليه حجاب...
وقوله تعالى: {فإنما يقول له كن فيكون}... يفهم معناه بالعبادة: إخبار منه جل وعلا عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما شاهدت ظهور أشياء ناقضة للعادة في رزقنا، فكذلك ننقض العادة في خلق ولدٍ من غير مسيس بشر.
{إِذَا قَضَى أَمْرًا}: أي أراد إمضاء حُكْم.
{فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}: فلا يتعسر عليه إبداء ولا إنشاء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقول مريم: {ربِّ أنّى يكون لي ولد} استفهام عن جهة حملها واستغراب للحمل على حال بكارتها، و {يمسسني}، معناه يطأ ويجامع، والمسيس الجماع، ومريم لم تنف مسيس الأيدي، والإشارة بقوله: {كذلك} يحتمل أن تكون إلى هذه القدرة التي تتضمنها البشارة بالكلمة، ويحتمل أن تكون إلى حال مريم وبكارتها، وقد تقدم شرح هذين التأويلين في أمر زكرياء عليه السلام. وجاءت العبارة في أمر زكريا يفعل وجاءت هنا، {يخلق} من حيث أمر زكرياء داخل في الإمكان الذي يتعارف وإن قل، وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع وأدل عليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كأنها لما سمعت ذلك امتلأت تعجباً فاستخفها ذلك إلى الاستعجال بالسؤال قبل إكمال المقال بأن {قالت رب} أيها المحسن إلى {أنّى} أي من أين وكيف {يكون لي} ولما كان استبعادها لمطلق الحبل، لا بقيد كونه ذكراً كما في قصة زكريا عليه السلام قالت {ولد} وقالت: {ولم يمسسني بشر} لفهمها ذلك من نسبته إليها فقط. قال الحرالي: والبشر هو اسم المشهود من الآدمي في جملته بمنزلة الوجه في أعلى قامته، من معنى البشرة، وهو ظاهر الجلد انتهى... ولما كان استبعادها لمطلق التكوين من غير سبب أصلاً عبر في تعليل ذلك بالخلق فقال: {الله} أي الملك الأعظم الذي لا اعتراض عليه {يخلق} أي يقدر ويصنع ويخترع {ما يشاء} فعبر بالخلق إشارة إلى أن العجب فيه لا في مطلق الفعل كما في يحيى عليه السلام من جعل الشيخ كالشاب، ثم علل ذلك بما بين سهولته فقال: {إذا قضى أمراً} أي جل أو قل {فإنما يقول له كن فيكون} بياناً للكلمة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}؟ أي كيف يكون لي ولد والحال أنني لم أتزوج فالمس كناية ظاهرة والاستفهام على حقيقته في وجه. ومعناه هل يكون ذلك بزواج يطرأ أم بمحض القدرة؟ وفي وجه آخر: للتعجب من قدرة الله والاستعظام لشأنه {قال كذلك الله يخلق ما يشاء} أي كمثل هذا الخلق البديع يخلق الله ما يشاء، فإن من شأنه الاختراع والإبداع، أقول: وعبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل، وكل منهما خلق وفعل، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيرا فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة. ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب. فيقال: خلق السموات والأرض ولا يقال فعل السموات والأرض، ولما كان إيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس عبر عنه بالفعل، وإن كان فيه آية لزكريا أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما عادة وأما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد لأنه من أم غير زوج في الظاهر فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه، والتعبير عنه بالخلق أليق، وإن كان له سبب روحاني جعل أمه بمعنى الزوج كما سيأتي. ولكن هذا السبب غير معهود للناس ولا معروف لهم فمريم لا تعرفه. ولكنها كانت مؤمنة بالله موقنة بقدرته على كل شيء ولذلك أحالها في البشارة على مشيئته لتكون موقنة {إذا قضى أمرا} أي إذا أراد شيئا، كما عبر في آية أخرى. فالقضاء بمعنى الإرادة {فإنما يقول له كن فيكون} قالوا إن هذا ورد مورد التمثيل لكمال قدرته ونفوذ مشيئته والتصوير لسرعة حصول ما يريد بغير ريث ولا تأخر، بتشبيه حدوث ما يريده عند تعليق إرادته به حالا بطاعة المأمور لقادر على العمل للآمر المطاع. ويسمون الأمر بكن أمر التكوين، ومنه قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها والأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11] أي أراد أن يكونا فكانتا. ويقابله أمر التكليف الذي يعرف بوحي الله لأنبيائه. وقد مر الإلماع لهذا من قبل.
وأقول: اعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شؤون الكون ما لم يكن معتادا من قبل فمنه ما يعرفون له سببا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة. ونحن معاشر المؤمنين نقول إن تلك الأشياء المعبر عنها بالفلتات، إما أن يكون لها سبب خفي، وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك. وإما أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب، وحينئذ يجب أن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ما وعده مستحيلا لأنه لا يعرف له سببا... إذا تمهد هذا فنقول: إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات قد أرسل روحا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرا ونفخ فيها، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام. وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله اعلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما مريم الفتاة الطاهرة العذراء المقيدة بمألوف البشر في الحياة، فقد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة. واتجهت إلى ربها تناجيه وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان:
(قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر؟)..
وجاءها الجواب، يردها إلى الحقيقة البسيطة التي يغفل عنها البشر لطول الفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة لعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود:
(قال: كذلك الله يخلق ما يشاء. إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن فيكون)..
وحين يرد الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب؛ ويعود الإنسان على نفسه يسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب!!
وهكذا كان القرآن ينشئ التصور الإسلامي لهذه الحقائق الكبيرة بمثل هذا اليسر الفطري القريب. وهكذا كان يجلو الشبهات التي تعقدها الفلسفات المعقدة، ويقر الأمر في القلوب وفي العقول سواء..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام في قولها {أنى يكون لي ولد} للإنكار والتعجّب ولذلك أجيب بجوابين أحدهما:"كذلك الله يخلق ما يشاء"، فهو لرفع إنكارها. والثاني: "إذا قضى أمراً..."، لرفع تعجّبها...
وتقديم اسم الجلالة على الفعل في قوله: {الله يخلق} لإفادة تقوي الحكم وتحقيق الخبر...
ويقول الحق على لسان مريم البتول: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ...}
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} فلو أنها سكتت عند قولها: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} لكان أمرا معقولا في تساؤلها، ولكن إضافتها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} تثير سؤالا، من أين أتت بهذا القول {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}؟ هل قال لها أحد: إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملائكة لم تخبرها بذلك، لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس. إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن الله، عندما قال لها:"المسيح عيسى ابن مريم".
قالت لنفسها: إن نسبته بأمر الله هي لي، فلا أب له، لقد قال الحق: إنه "ابن مريم "ولذلك جاء قولها: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}، ذلك أنه لا يمكن أن ينسب الطفل للأم مع وجود الأب. هكذا نرى فطنة التلقي عن الله في مريم البتول. لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها وقالت لنفسها، إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب، وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني بشر. وقال الخالق الأكرم: {كَذَلِكَ} أي لن يمسك بشر، ولم يقل لها: لقد نسبناه لك لأنك منذورة لخدمة البيت، ولكن الحق قال: {كَذَلِكَ} تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر. وتتجلى طلاقة القدرة في قوله سبحانه: {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ}.
إنها طلاقة القدرة، وطلاقة القدرة في الإنسال أو الإنجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للإنسان، وطلاقة القدرة لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، ولو كانت طلاقة القدرة في الخلق لا تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة، إنه الحق الأعلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة، كخلقه لآدم عليه السلام، ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما، كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلام، ويخلق الخالق الأعلى الذكورة والأنوثة يمكن أن يُحقق الخلق، فقد توجد الذكورة والأنوثة ولا يوجد إنجاب، ها هو ذا القول الحق:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
هذه هي إرادة الحق، إذن فلا تقل: إن اكتمال عنصري الذكورة والأنوثة هو الذي يحدث الخلق، لأن الخلق يحدث بإرادة الحق، {كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالأسباب. لكن الذي خلقكم وخلق الأسباب لكم هو الذي بيده أن يوجد بلا أسباب، لأنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.