وفي النهاية يتوجه الحديث إلى المتخلفين التائبين :
( وقل : اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
ذلك أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة وعمل يصدق العقيدة . فمحك الصدق في توبتهم إذن هو العمل الظاهر ، يراه اللّه ورسوله والمؤمنون . فأما في الآخرة فمردهم إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم فعل الجوارح وكوامن الصدور .
إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف . ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة . فيصدق أو يكذب تلك المشاعر النفسية ويعمقها أو يكتسحها بعد أن تكون !
إن الإسلام منهج حياة واقعية ، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا ، ما لم تتحول إلى حركة واقعية . وللنية الطيبة مكانها ؛ ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء . إنما هي تحسب مع العمل ، فتحدد قيمة العمل . وهذا معنى الحديث : " إنما الأعمال بالنيات " . . الأعمال . . لا مجرد النيات
قال مجاهد : هذا وَعيد ، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرَضُ عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول ، وعلى المؤمنين . وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [ الحاقة : 18 ]{[13826]} ، وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] ، وقال { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } [ العاديات : 10 ] وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صَماء ليس لها باب ولا كُوَّة ، لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان " {[13827]} . وقد ورد : أن أعمال الأحياء تُعرَض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرًا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : " اللهم ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك " {[13828]} . وقال الإمام أحمد : أخبرنا عبد الرزاق ، عن سفيان ، عمَّن سمع أنسًا يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات ، فإن كان خيرًا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ، لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " {[13829]} .
وقال البخاري : قالت عائشة ، رضي الله عنها : إذا أعجبك حُسن عمل امرئ ، فقل : { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }{[13830]} .
وقد ورد في الحديث شبيه بهذا ، قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له ؟ فإن العامل يعمل زمانًا من عمره - أو : بُرهَة من دهره - بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة ، ثم يتحول فيعمل عملا سيئًا ، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ ، لو مات عليه دخل النار ، ثم يتحول فيعمل عملا صالحًا ، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل موته " . قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله : قال : " يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه " {[13831]} تفرد به أحمد من هذا الوجه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدّونَ إِلَىَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَقُلْ يا محمد لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك : اعْمَلُوا لله بما يرضيه من طاعته وأداء فرائضه ، فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ يقول : فسيرى الله إن عملتم عملكم ، ويراه رسوله . وَالمُؤْمِنُونَ في الدنيا وَسَيُرَدّونَ يوم القيامة إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم ، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركُمْ وظواهرها . فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : فيخبركم بما كنتم تعملون ، وما منه خالصا وما منه رياء وما منه طاعة وما منه لله معصية ، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤْمِنُونَ قال : هذا وعيد .
وقوله { وقل اعملوا } الآية ، صيغة أمر مضمنها الوعيد ، وقال الطبري : المراد بها الذين اعتذروا من المتخلفين وتابوا .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر أن المراد بها الذين اعتذورا ولم يتوبوا وهم المتوعدون وهم الذين في ضمير قوله { ألم يعلموا } إلا على الاحتمال الثاني من أن الآيات كلها في { الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } [ التوبة : 84 ] ، ومعنى { فسيرى الله } أي موجوداً معوضاً للجزاء عليه بخير أو شر ، وأما الرسول والمؤمنون فرؤيتهم رؤية حقيقة لا تجوز ، وقال ابن المبارك رؤية المؤمنين هي شهادتهم على المرء بعد موته وهي ثناؤهم عند الجنائز ، وقال الحسن ما معناه : إنهم حذروا من فراسة المؤمن التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله »{[5882]} ، وقوله تعالى { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون } يريد البعث من القبور ، و { الغيب والشهادة } معناه ما غاب وما شوهد ، وهي حالتان تعم كل شيء{[5883]} ، وقوله { فينبئكم } عبارة عن حضور الأعمال وإظهارها للجزاء عليها وهذا وعيد .