الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

وقوله : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون } ، إلى قوله : { والله عليم حكيم }[ 105-106 ] .

والمعنى : { وقل } ، يا محمد ، لهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم : { اعملوا } ، أي : اعملوا بما يرضي{[29921]} الله ، { فسيرى الله عملكم } ، وسيراه رسوله والمؤمنون ، في الدنيا ، { وستردون إلى عالم الغيب والشهادة }[ 105 ] ، أي : تردون يوم القيامة ، إلى الله الذي يعلم السر والعلانية ، { فينبئكم بما كنتم تعملون }[ 105 ] ، أي يخبركم بعملكم ، ويجازيكم عليه جزاء المحسنين أو جزاء المسيء{[29922]} .

وقال مجاهد : الآية وعيد من الله{[29923]} .

و{ فسيرى الله } ، من رؤية{[29924]} العين{[29925]} .

ثم قال تعالى : { مرجون لأمر الله وآخرون }[ 106 ] .

هذا معطوف على ما قبله{[29926]} . والمعنى : { وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة } قوم { مردوا على النفاق } ، ومنهم { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ، ومنهم { وآخرون مرجون لأمر الله }{[29927]} . فالتقدير : من هؤلاء المتخلفين عنكم ، { مرجون لأمر الله وآخرون } ، وقضائه فيهم{[29928]} .

{ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم }[ 106 ] .

وهم قوم تخلفوا ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وندموا على ما صنعوا ، فتاب الله عليهم ، إذ علم صحة توبتهم وندمهم ، فقال : { لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين والانصار } ، إلى قوله : { هو التواب الرحيم }[ 118 ، 119 ]{[29929]} .

قال ابن عباس : لما نزل : { خذ من أموالهم صدقة } ، يعني : أبا لبابة وصاحبيه ، يعني : الثلاثة الذين لم يربطوا أنفسهم ، ولم يظهروا التوبة ، فلم يذكروا بشيء فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فأنزل الله عز وجل : { مرجون لأمر الله وآخرون } ، الآية ، فيهم فجعل الناس يقولون : هلكوا ، إذ لم ينزل فيهم عذر . وجعل آخرون يقولون : عسى الله أن يتوب عليهم ، فصاروا مرجئين{[29930]} ، لا يقطع لهم بشيء ، حتى نزل : { لقد تاب الله على النبيء والمهاجرين } ، إلى قوله : { إنه بهم رءوف رحيم } ، ثم قال تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } يعني : الثلاثة الذين أرجوا ، إلى قوله : { هو التواب الرحيم }{[29931]} .

وقال عكرمة : { وآخرون مرجون } : هم الثلاثة الذين خُلِّفوا{[29932]} .

والثلاثة في قول مجاهد : هلال{[29933]} بن أمية ، ومُرارة بن الربيع{[29934]} ، وكعب بن مالك ، الثلاثة من الأوس{[29935]} .

وقال الضحاك : { وآخرون مرجون } ، هم الثلاثة الذين خُلِّفوا عن التوبة ، يعني : توبة أبي لبابة وصاحبيه ، فضاقت عليهم الأرض . وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فيهم فئتين ، فئة تقول : هلكوا ، وفئة تقول : عسى الله أن يعفو عنهم ، فأنزل الله /عز وجل : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } ، وأرجأ{[29936]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرهم حتى نزلت توبتهم{[29937]} .

وقوله : { إما يعذبهم }[ 106 ] .

ومعناه : إما يحجزهم عن التوبة ، فيعذبهم ، وإما يوفقهم{[29938]} فيتوب عليهم{[29939]} .

{ حكيم } ، وقف{[29940]} ، على قراءة من قرأ : { الذين } ، بغير واو{[29941]} . وغير وقف{[29942]} على قراءة من قرأ : { الذين اتخذوا } بالواو{[29943]} .


[29921]:في "ر": بما فرض الله.
[29922]:كذا في المخطوطتين. وفي جامع البيان 14/462، 463، الذي نقل عنه المؤلف بتصرف: "فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته".
[29923]:جامع البيان 14/463، وتفسير البغوي 4/92، وتفسير ابن كثير 2/386، والدر المنثور 4/283.
[29924]:في الأصل: رواية، وهو تحريف ناسخ.
[29925]:إعراب القرآن للنحاس 2/234، ونص قيله: "هذا من رؤية العين لا غير؛ لأنه لم يتعد إلا إلى مفعول واحد. انظر: مزيد بيان في تفسير الرازي 8/192، وما بعدها.
[29926]:جامع البيان 14/464، وإعراب القرآن للنحاس 2/234.
[29927]:معاني القرآن وإعرابه للزجاج 2/467.
[29928]:انظر: جامع البيان 14/464.
[29929]:وهو تفسير ابن عباس في جامع البيان 14/464، 465، بتصرف في صياغته.
[29930]:في الأصل حرفت مرجئين إلى: من حين. وفي "ر": طمسته الرطوبة والأرضة. وصوابه من جامع البيان.
[29931]:جامع البيان 14/465، بتصرف في بعض ألفاظه.
[29932]:جامع البيان 14/465، والدر المنثور 4/284.
[29933]:هو: هلال بن أمية بن عامر الأنصاري الواقفي، من بني واقف، شهد بدرا وما بعدها، انظر الاستيعاب 4/103، والإصابة 6/428.
[29934]:هو: مُرارة بن الربيع، ويقال: ابن ربيعة، الأنصاري الأوسي، من بني عمرو بن عوف، صحابي مشهور. انظر: الاستيعاب 3/439، والإصابة 6/52. وفي الأصل: ابن ربع، وهو تحريف. وفي ر، باهت بفعل الرطوبة.
[29935]:جامع البيان 14/466، وتفسير ابن أبي حاتم 6/1878، وفيهما: ومرارة بن ربعي، والدر المنثور 4/284، وفيها: "من الأوس والخزرج"، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، وغير واحد، في تفسير ابن كثير 2/387.
[29936]:في الأصل: وإن جاء، وهو تحريف ناسخ.
[29937]:جامع البيان 14/466، 67، بتصرف في بعض ألفاظه.
[29938]:في "ر": يرفعهم.
[29939]:جامع البيان 14/467، باختصار.
[29940]:تام، في القطع والإئتناف 367، والمكتفى 298، والمقصد 169، وكاف في منار الهدى 169.
[29941]:وهي قراءة: نافع، وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، جعلوه مستأنفا، وأضمروا الخبر، أو جعلوه خبرا، وأضمروا المبتدأ، ولا يحسن أن يكون "الذين" في هذه القراءة بدلا من "وآخرين" لأن "آخرين" ترجى لهم التوبة، الكشف عن وجوه القراءات السبع 1/507.
[29942]:وهو وقف كاف عند النحاس في القطع والإئتناف 367، والداني في المكتفى 288، والأشموني في المنار 169، 170, وتام عند الأنصاري في المقصد 169، 170، ولعل أبا محمد، رحمه الله، قد وهم في قوله: "غير وقف".
[29943]:وهي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي...، فهو معطوف على قوله: {ومنهم من عاهد الله} أي: منهم من عاهد الله {ومنهم من يلمزك}[58] {ومنهم الذين يوذون النبيء}[61]، ومنهم {آخرون مرجون} ومنهم {الذين اتخذوا مسجدا} الكشف 1/507.