إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (105)

وقوله تعالى : { وَقُلِ اعملوا } زيادةُ ترغيبٍ لهم في العمل الصالحِ الذي من جملته التوبةُ وللأولين في الثبات على ما هم عليه أي قل لهم بعد ما بان لهم شأنُ التوبةِ : اعملوا ما تشاؤون من الأعمال فظاهرُه ترخيصٌ وتخييرٌ وباطنُه ترغيبٌ وترهيبٌ وقوله عز وجل : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } أي خيراً كان أو شراً وتعليلٌ لما قبله وتأكيدٌ للترغيب والترهيب ، والسينُ للتأكيد { وَرَسُولُهُ } عطفٌ على الاسم الجليل وتأخيرُه عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت .

{ والمؤمنون } في الخبر ( لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان ) . والمعنى أن أعمالَكم غيرُ خافيةٍ عليهم كما رأيتم وتبين لكم ، ثم إن كان المرادُ بالرؤية معناها الحقيقيَّ فالأمرُ ظاهرٌ وإن أريد بها مآلُها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاصٌّ بالدنيوي من إظهار المدحِ والثناءِ والذكرِ الجميلِ والإعزازِ ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها { وَسَتُرَدُّونَ } أي بعد الموتِ { إلى عالم الغيب والشهادة } في وضع الظاهِرِ موضِعَ المضمَرِ من تهويل الأمرِ وتربية المهابةِ ما لا يخفى . ووجهُ تقديمِ الغيبِ في الذكر لسعة عالَمِه وزيادةِ خطرِه على الشهادة غنيٌّ عن البيان . وقيل : إن الموجوداتِ الغائبةَ عن الحواس عللٌ أو كالعلل للموجودات المحسوسةِ والعلمُ بالعلل علةٌ للعلم بالمعلومات فوجب سبقُ العلمِ بالغيب على العلم بالشهادة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبُ ما يُسِرّونه من الأعمال ، والشهادةُ ما يظهرونه كقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 . وهود 5 . والنحل : 23 ] فالتقديمُ حينئذ لتحقيق أن نسبةَ علمِه المحيطِ بالسر والعلنِ واحدةٌ على أبلغ وجهٍ وآكَدِه لا لإيهام أن علمَه سبحانه بما يسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزهٌ عن أن يكون بطريق حصولِ الصورة بل وجودُ كل شيءٍ وتحققُه في نفسه علمٌ بالنسبة إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلف الحالُ بين الأمور البارزةِ والكامنةِ ، وإما للإيذان بأن رتبةَ السرِّ متقدمةٌ على رتبة العلن ، إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو أو مباديه القريبةُ أو البعيدةُ مضمرٌ قبل ذلك في القلب فتعلقُ علْمِه تعالى به في حالته الأولى متقدمٌ على تعلقه به في حالته الثانية { فَيُنَبّئُكُمْ } عقّب الردّ الذي هو عبارةٌ عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } قبل ذلك في الدنيا والمرادُ بالتنبئة بذلك الجزاءُ بحسَبه إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشر فهو وعدٌ ووعيد .