قوله تعالى : { وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } الآية .
قال ابنُ الخطيبِ : " هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب ؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً ، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] ، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - القدح في إلهيّة الصَّنم ؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب ، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين ، فمن شاء أحرقه ، ومن شاء كسره ، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً ؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات ، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار ، فقال : الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات ، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ، ولا يرى تضرُّع المساكين ، فأيُّ فائدة في عبادته ؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الطَّعن في قول من يقول : إنَّ إله العالم موجب بالذَّات .
أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً ، وكان عالماً بالجزئيات ، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك ، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة ، فقوله : { وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ترغيبٌ عظيم للمُطيعين ، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال : اجتهدُوا في المستقبل ، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً .
أمَّا حكمه في الدُّنيا ، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة ، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده " .
دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ ، كقولك : رأيتُ زيداً فقيهاً ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد ، فتكون بمعنى الإبصار ، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء ، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم ؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة .
دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته ، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها : الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم ، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر ، وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسَّكنات ؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله { وَرَسُولُهُ والمؤمنون } وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف ؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه ، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك . فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه ، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ : رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال ، لقوله : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال ، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ، وقد يجابُ : بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله : { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز .
ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين :
الأول : أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم ، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون ، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ، فكأنه قيل : إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق ، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى ، وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق ، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ ، وهو الرسول والمؤمنون .
الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، لقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] ، والرسول شهيد الأمَّة ، لقوله : { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم ، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين ، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد .
قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } . قال ابنُ عباسٍ : الغيبُ : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه{[18118]} . قال حكماءُ الإسلامِ : الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة ، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول ؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة ؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة .
إن حملنا قوله تعالى : { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } على الرُّؤية ، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } ، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب ، كان قوله { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } جارياً مجرى التفسير لقوله { فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها . وقوله : { وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة } أي : ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ .
{ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها ؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.