13- إن القرآن فيه الآية الدالة على صدقك ، فإن قالوا : إنه ألَّفه من عنده أو افتراه على الله ، فقل لهم : إن كان هذا القرآن من عند بشر ، أمكن للبشر أن يأتوا بمثله ، وأنتم فصحاء البشر . فأتوا بعشر سور مثله مُختَلَقَات ، واستعينوا بما يمكنكم الاستعانة به من الإنس والجن ، إن كنتم صادقين في دعواكم أنه كلام بشر .
قوله تعالى : { أم يقولون افتراه } ، بل يقولون اختلقه ، { قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات } . فإن قيل : قد قال في سورة يونس : { فاتوا بسورة مثله } ، وقد عجزوا عنه فكيف قال : { فاتوا بعشر سور } ، فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهما فيعجز ، فيقول : أعطني عشرة ؟ الجواب : قد قبل سورة هود نزلت أولاً . وأنكر المبرد هذا ، وقال : بل نزلت سورة يونس أولاً ، وقال : معنى قوله في سورة يونس : { اتوا بسورة مثله } ، أي : مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد ، فعجزوا فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور مثله من غير خبر ولا وعد ولا وعيد ، وإنما هي مجرد البلاغة ، { وادعوا من استطعتم } ، واستعينوا بمن استطعتم . { من دون الله إن كنتم صادقين } .
وقولة أخرى يقولونها . وقد قالوها مرارا : إن هذا القرآن مفترى . فتحدهم إذن أن يفتروا عشر سور كسوره ، وليستعينوا بمن يشاءون في هذا الافتراء :
( أم يقولون افتراه ؟ قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات . وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) .
ولقد سبق أن تحداهم بسورة واحدة في سورة يونس ، فما التحدي بعد ذلك بعشر سور ؟
قال المفسرون القدامى : إن التحدي كان على الترتيب : بالقرآن كله ، ثم بعشر سور ، ثم بسورة واحدة . ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل . بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة ، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور . وحقيقة إن ترتيب الآيات في النزول ليس من الضروري أن يتبع ترتيب السور . فقد كانت تنزل الآية فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول . إلا أن هذا يحتاج إلى ما يثبته . وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود . والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز .
ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يجد لهذا العدد ( عشر سور )علة ، فأجهد نفسه طويلا - رحمة الله عليه - ليقول : إن المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطول إلى وقت نزول سورة هود كانت عشرا . فتحداهم بعشر . . لأن تحديهم بسورة واحدة فيه يعجزهم أكثر من تحديهم بعشر نظرا لتفرق القصص وتعدد أساليبه ، واحتياج المتحدي إلى عشر سور كالتي ورد فيها ليتمكن من المحاكاة إن كان سيحاكى . . الخ
ونحسب - والله أعلم - أن المسألة أيسر من كل هذا التعقيد . وأن التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول ، لأن القرآن كان يواجه حالات واقعة محددة مواجهة واقعة محددة . فيقول مرة : ائتوا بمثل هذا القرآن . أو ائتوا بسورة ، أو بعشر سور . دون ترتيب زمني . لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن . كله أو بعضه أو سورة منه على السواء . فالتحدي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره . والعجز كان عن النوع لا عن المقدار . وعندئذ يستوي الكل والبعض والسورة . ولا يلزم ترتيب ، إنما هو
مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة . فهو الذي يجعل من المناسب أن يقال سورة أو عشر سور أو هذا القرآن . ونحن اليوم لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن .
( وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) . .
ادعوا شركاءكم وفصحاءكم وبلغاءكم وشعراءكم وجنكم وإنسكم . وأتوا بعشر سور فقط مفتريات ، إن كنتم صادقين في أن هذا القرآن مفترى من دون الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به ودلالةً على صحّة نبوّتك هذا القرآن من سائر الاَيات غيره ، إذْ كانت الاَيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه ، لعجِز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، وهذا القرآن جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله . فإن هم قالوا : افتريتَه : أي اختلقتَه وتكذّبتَه . ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله : أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ . . . . إلى آخر الآية . ويعني تعالى ذكره بقوله : أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ أي أيقولون افتراه وقد دللنا على سبب إدخال العرب «أم » في مثل هذا الموضع فقل لهم : يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات ، يعني مفتعلات مختلفات ، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترى وليس بآية معجزة كسائر ما سألته من الاَيات ، كالكنز الذي قلتم : هلاّ أنزل عليه أو الملَك الذي قلتم : هلاّ جاء معه نذيرا له مصدّقا فإنكم قومي وأنتم من أهل لساني ، وأنا رجل منكم ، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مئة سورة وأربع عشرة سورة ، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها ، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق . يقول جلّ ثناؤه : قل لهم : وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله ، يعني سوى الله ، لافتراء ذلك واختلاقه من الاَلهة ، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله ، فقد تبين لكم أنكم كَذَبة في قولكم افتراه ، وصحت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله ، ولم يكن لكم أن تتخيروا الاَيات على ربكم ، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذّبون به أنه من عند الله مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدقون بمجيئها .
وقوله : إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ لقوله : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وإنما هو : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد ، وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك من الاَلهة والأنداد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قد قالوه قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا شُهدَاءَكُمْ قال : يشهدون أنها مثله هكذا قال القاسم في حديثه .
{ أم يقولون افتراه } { أم } منقطعة والهاء { لما يوحى } . { قل فأتوا بعشر سور مثله } في البيان وحسن النظم تحداهم أولا بعشر سور ثم لما عجزوا عنها سهل الأمر عليهم وتحداهم بسورة ، وتوحيد المثل باعتبار كل واحدة . { مُفتريات } مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته نم عند نفسي فإنكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه بل أنتم لتعلمكم القصص والأشعار وتعودكم القريض والنظم . { وادعوا من استطعتم من دون الله } إلى المعاونة على المعارضة . { إن كنتم صادقين } أنه مفترى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم} يعني: بل، {يقولون} إن محمدا {افتراه} قالوا: إنما يقول محمد هذا القرآن من تلقاء نفسه، {قل} لكفار مكة: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} يعني مختلقات مثله، يعني مثل القرآن، {وادعوا} يعني واستعينوا عليه، {من استطعتم من الآلهة التي تعبدون، {من دون الله إن كنتم صادقين} بأن محمدا تقوله من تلقاء نفسه. قال في هذه السورة: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}، فلم يأتوا، ثم قال في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله} [يونس:38] واحدة، وفي البقرة أيضا: {فأتوا بسورة من مثله} [البقرة:23]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به ودلالةً على صحّة نبوّتك هذا القرآن من سائر الآيات غيره، إذْ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجِز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، وهذا القرآن جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله. فإن هم قالوا: افتريتَه: أي اختلقتَه وتكذّبتَه. ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا قوله:"أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ..." إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: "أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ "أي أيقولون افتراه؟... فقل لهم: يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، يعني مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترى وليس بآية معجزة كسائر ما سُألته من الآيات، كالكنز الذي قلتم: هلاّ أنزل عليه، أو الملَك الذي قلتم: هلاّ جاء معه نذيرا له مصدّقا، فإنكم قومي وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مئة سورة وأربع عشرة سورة، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق. يقول جلّ ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله، يعني سوى الله، لافتراء ذلك واختلاقه من الآلهة، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم أنكم كَذَبة في قولكم افتراه، وصحت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله، ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذّبون به أنه من عند الله مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدقون بمجيئها.
وقوله: "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" لقوله: "فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ" وإنما هو: قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد، وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك من الآلهة والأنداد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَاتُوا) أنتم (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) لأنكم أَقْدَرُ على الافتراء من محمد لأنكم قد عَوَّدْتُم أنفسَكم التكذيبَ والِافتراءَ، ومحمّدٌ لم تأخذوه بكذبٍ قَطُّ، ولا أَظهَر منه افتراءً. فمَن عَوَّدَ نفسَه الافتراءَ والكذبَ أقْدَرُ عليه ممّن لم يَعرِف ذلك قَطُّ. (فأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ و ادْعُوا) أيضا شهداءكم من الجِنّ والإنْسِ (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) يُعِينُوكُمْ على إتيان مِثلِه (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أنه افتراءٌ من عندِه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذه الآية صريحة بالتحدي، وفيها قطع لاعتلال المشركين وبغيهم، لأنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن قالوا: إن ما فيه من الأخبار كذب اختلقه واخترعه أو قرأ الكتب السالفة، فقال الله تعالى لهم: افتروا أنتم مثله، وادحضوا حجته فذلك أيسر وأهون مما تكلفتموه، فعجزوا عن ذلك وصاروا إلى الحرب وبذل النفس والمال وقتل الآباء والأبناء. ولو قدروا على إطفاء أمره بالمعارضة لفعلوه مع هذا التقريع العظيم. وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن وأنها الفصاحة في هذا النظم المخصوص، لأنه لو كان غيره لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تحداهم أوّلا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد. {مِّثْلِهِ} بمعنى أمثاله، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له. {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة لعشر سور لما قالوا: افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي وأنّ الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام.
فإن قلت: كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه {أَمْ} التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أَضرَب عن الكلام الأول، واستفهَم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لَإِبِلٌ أَمْ شاءٌ... والافتراء أخَصُّ من الكذب، ولا يُستعمل إلا فيما بَهَتَ به المرءُ وكابَر، وجاء بأمرٍ عظيمٍ منكَرٍ، ووقع التحدي في هذه الآية {بِعَشْرِ} لأنه قيَّدها بالافتراء، فوسَّع عليهم في القَدْر لِتَقوم الحجّةُ غايةَ القيامِ... و {مَنْ} في قوله: {مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} يُراد بها... الشياطينُ وكلُّ ما كانوا يُعظِّمونه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم بيَّن تعالى إعجازَ القرآن، وأنه لا يستطيع البشرُ الإتيان بمِثله، ولا بعشرِ سوَرٍ [من] مِثلِه، ولا بسورةٍ من مِثلِه؛ لأن كلام الرّبِّ لا يُشبِهه كلامُ المخلوقين، كما أن صفاتِه لا تُشبه صفاتِ المُحْدَثاتِ، وذاتَه لا يُشْبهها شيءٌ، تعالى وتقدَّس وتنزَّه، لا إلهَ إلا هو ولا ربَّ سواه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أَمْ يَقُولُونَ} أي مُكرِّرِين {افْتَرَاهُ} فكان ذلك موضعَ أنْ يقال: نَعَمْ، إنهم لَيقولون ذلك فيَقْدَحون في الدليل فماذا يقال لهم؟ فقيل: {قُلْ} أي لهم على سبيل التنزُّل {فأتوا} يا معاشِرَ العرب فإنّكم مِثْلي في العربية واللّسان والمَوْلِد والزّمن وفيكم من يزيد عليَّ بالكتابة والقراءة ومخالَطةِ العلماء والتعلُّمِ من الحكماء ونظمِ الشعر واصطناع الخُطَبِ و النثر وتكلُّفِ الأمثالِ وكلِّ ما يُكْسِب الشرفَ والفخرَ {بِعَشْرِ سُوَرٍ} أي قِطَعٍ، كلُّ قِطعةٍ منها تحيط بمعنىً تامٍّ يُستدلّ فيها عليه {مِثْلِهِ} أي تكون العشرُ مثلَ جميعِ القرآن في طوله وفي مثل احتوائه على أساليب البلاغة وأفانينِ العذوبة والمتانةِ والفحولةِ والرشاقةِ حالَ كونِها {مُفْتَرَيَاتٍ}...
{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} أي طلبْتم أن يُطيعكم ففَعل، ولمّا كانت الرُّتَبُ كلُّها تحت رُتْبتِه تعالى والعربُ مُقِرّةٌ بذلك قال: {مِنْ دُونِ اللهِ} أي المَلِكِ الأعلَى. وأشار إلى عجْزهم بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وفي ذلك زيادةُ بيانٍ وتثبيتٍ للدليل، فإنّ كل ظَهيرٍ مِن سواهم دونَهم في البلاغة، فعجْزُهم عجْزٌ لغيرهم بطريقِ الأَوْلَى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي: بل أيقول هؤلاء المشركون من أهل مكة أن محمدا قد افترى هذا القرآن؟ قل لهم أيها الرسول: إن كان الأمر كما تزعمون فاتوا بعشر سور مثله مفتريات من عند أنفسكم لا تدعون أنها من عند الله، فإنكم أهل اللسن والبيان، والمران على المفاخرة بالفصاحة والبلاغة، وفنون الشعر والخطابة، ولم يسبق لي شيء من ذلك في هذا العمر الطويل الذي عشته بينكم، وهو أربعون سنة، فإن كان من جنس كلام البشر فأنتم به أجدر، وإن كانت أخباره عن الله تعالى وعن عالم الغيب عنده وقصصه عن الرسل وأقوامهم مفتريات فأنتم على مثلها أقدر، فإنكم تعلمون أنني أصدقكم لسانا لم أكذب على بشر قط، فكيف أفتري على الله عز وجل؟ وأنتم تفترون عليه؟ باتخاذ الآلهة معه والبنات له والشفعاء عنده، وتحريم السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، وغير ذلك من الزرع والأنعام.
وإن كنتم تزعمون أن لي من يعينني على وضعه ممن لا وجود لهم بالفعل ولا بالإمكان، فادعوا من استطعتم ممن تعبدون غير الله ومن جميع خلق الله ليساعدوكم على الإتيان بهذه السور العشر مثله مفتريات إن كنتم صادقين في دعواكم، بأن تكون مشتملة على مثل ما فيه من تشريع ديني ومدني وسياسي وحكم ومواعظ وآداب وأنباء غيبية محكمة عن الماضي وأنباء غيبية على أنها ستأتي، بمثل هذه النظم البديعة، والأساليب العجيبة، والبلاغة الحاكمة على العقول والألباب، والفصاحة المستعذبة في الأذواق والأسماع، والسلطان المستعلي على الأنفس والأرواح، إذا كان ما تحديتكم به أولا من سورة واحدة لا يتسع لكل الأجناس والأنواع، أو فأتوا بنوع مما تدعون افتراءه كالقصص في علومها وحكمها وهدايتها، مكررا كتكراره لكل أنواعها، هذا التكرار الذي لا تبلي جدته، ولا تمل إعادته.
هذه الآية كالآية 38 من سورة يونس إلا أن التحدي في تلك بسورة مثله مطلقا، وفي هذه بعشر سور مثله مفتريات...
وإنني أجزم هنا – بعد التأمل في جميع آيات التحدي وتاريخ نزول سورها- أنها لم يكن مراعى بها الترتيب التاريخي في مخاطبة المشركين كما زعم جمهور المفسرين، بل ذكر منها بمناسبة سياق سورته، فسورة الطور التي فيها {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} [الطور: 33، 34] وهو تحد بجملته، قد نزلت بعد سورتي يونس وهود اللتين تحداهم فيها بالعشر بعد الواحدة. وسورة الإسراء نزلت قبلهن وفيها ذكر عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله ولكنه لم يكن تحديا. وكان آخر ما نزل في التحدي آية سورة البقرة 23 وهو تحد للمرتابين فيما نزله الله على عبده بأن يأتوا بسورة من مثله. إذا كان نزولها في السنة الثانية للهجرة.
الخلاصة أن مشركي مكة المعاندين لم يجدوا شبهة على القرآن – بعد شبهة السحر القديمة التي لم تلق رواجا عند العرب لأنه كلام بلغتهم، عرفوه وعقلوه وأدركوا علوه على سائر الكلام- إلا زعمهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه في جملته، وما هو وحي من عند الله تعالى، فتحداهم بالإتيان بمثله بالإجمال، وبسورة مثله في جملة مزاياه من نظمه وأسلوبه، وبلاغته وعلومه، وتأثير هدايته، وسلطانه الإلهي على الأرواح والعقول فعجزوا، وبقيت لهم شبهة عليه في قصصه إذا ادعى أنها من أنباء الغيب أوحاه الله إليه، فزعموا أنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون، وأنه أساطير الأولين اكتتبها لنفسه فهي تملى عليه ويلقنها لئلا ينساها، وهذه شبهة خاصة موجهة إلى قصصه المتفرقة في سوره الكثيرة، لا يدحضها عجزهم عن الإتيان بسورة واحدة مثله في بلاغتها التي حصروا الإعجاز فيها ولا إبداع نظمها ولا طرافة أسلوبها أيضا، ولا سيما إذا كانت قصيرة، فتحداهم بعشر سور مثله مفتريات، أي مثل هذه القصص التي زعموا أنها أساطير الأولين، وإنما تكون مثلها إذا كانت جامعة لمزاياها المعنوية العلمية التي بينا أظهرها في الجمل العشر آنفا.
وجملة القول إن التحدي بعشر سور مثله مفتريات قد كان لإبطال هذه التهمة الخاصة من الافتراء، وقد بينا معناها، والسور المفصلة فيها التي تمت عشرا بهذه السورة [هود] وكلفهم دعوة من استطاعوا من دون الله تعالى ليظاهروهم فعجزوا، ولم يجدوا من آلهتهم ولا من فصائحهم ولا من أعداء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب من يستجيب لهم، فقامت عليهم الحجة وعلى غيرهم إلى يوم القيامة، فهذه حكمة هذا التحدي الظاهرة هنا.
وله حكمة أخرى باطنة لازمة للأولى هي التي تمت بها الفائدة، وهي أنه يوجه الأنظار ويشغل الأفكار بالتأمل في القرآن، وتدبر ما حواه من حكمة وعرفان وما لها في القلوب والعقول من تأثير وسلطان، فيا حسرة على الغافلين الذين زعموا أن إعجازها محصور في فصاحة المفردات والجمل وبلاغة البيان، على ما في دلالة الفصاحة والبلاغة على النبوة من الخفاء على الأفكار والأذهان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد حاول السيد رشيد رضا في تفسير المنار أن يَجد لهذا العدد (عشر سورٍ) عِلّةً، فأَجهَد نفسه طويلاً -رحمة الله عليه -... ونحسب- والله أعلم -أن المسألة أيسَرُ من كل هذا التعقيد. وأن التحدي كان يلاحِظ حالةَ القائلين وظروفَ القولِ، لأن القرآن كان يواجِه حالاتٍ واقعةً محدَّدةً مواجَهةً واقعةً محدَّدةً. فيقول مَرّةً: ائْتُوا بمِثْلِ هذا القرآنِ. أو ائْتُوا بسورةٍ، أو بعَشْرِ سُوَرٍ. دون ترتيبٍ زمنيٍّ. لأن الغرض كان هو التحدي في ذاته بالنسبة لأيّ شيءٍ من هذا القرآنِ. كلِّه أو بعضِه أو سورةٍ منه على السواء. فالتحدي كان بنوعِ هذا القرآنِ لا بمقداره. والعجزُ كان عن النوع لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكُلُّ والبعضُ والسورةُ. ولا يَلزَم ترتيبٌ، إنما هو مقتضى الحالةِ التي يكون عليها المخاطبون، ونوعُ ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسِب أن يقال سورةٌ أو عَشْرُ سُوَرٍ أو هذا القرآنُ. ونحن اليومَ لا نَملِك تحديدَ المُلابَسات التي لم يَذكرْها لنا القرآنُ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والافتراء: الكذِبُ الذي لا شُبْهةَ لصاحبه، فهو الكذب عن عَمْدٍ... {قُلْ فَأْتُوا}... والإتيان بالشيء: جَلْبُه، سواء كان بالاسترفاد من الغير أم بالاختراع من الجالب وهذا توسِعةٌ عليهم في التحدّي...
والدعاء: النداء لعملٍ، وهو مستعمَلٌ في الطلب مجازاً ولو بدون نداءٍ. وحُذف المتعلّق لدلالة المقام، أي وادْعُوا لذلك. والأمر فيه للإباحة، أي إن شئتم حين تكونون قد عجزتم عن الإتيان بعشر سورٍ من تِلقاء أنفسكم فلَكُمْ أن تَدْعُوا من تتوسَّمون فيه المَقْدرة على ذلك ومَن تَرجون أن يَنفَحَكم بتأييده... {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}... وجواب الشرط هو قوله: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ}...