البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (13)

الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة أي : أيقولون افتراه .

وقال ابن القشيري : أم استفهام توسط الكلام على معنى : أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن ، أم يقولون إنه ليس من عند الله ، فإن قالوا : إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى .

فجعل أم متصلة ، والظاهر الانقطاع كما قلنا ، والضمير في افتراه عائد على قوله : ما يوحى إليك ، وهو القرآن .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله ، وأنه هو الذي افتراه ، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة ، إذ كانت هذه السورة مكية ، والبقرة مدنية ، وسورة يونس أيضاً مكية ، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة ، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم ، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم ، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام ، وإنما عين بقوله : مثله ، في حسن النظم والبيان وإن كان مفترى .

وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو ، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى : { أنؤمن لبشرين مثلنا } وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله : { ثم لا يكونوا أمثالكم } { وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون } وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى ، والمجموع أي : مثلين وأمثال .

والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له .

وقال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء ، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام ، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد ، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده ، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير ، والغرض واحد ، واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه ، فهذه غاية التوسعة .

وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر ، لأنّ هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه ، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب ، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة .

وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم : افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس .

وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك ، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة ، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه ، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفترى .

وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة ، ووقوفها على النظم مرة انتهى .

والظاهر أن قوله : مثله ، لا يراد به المثلية في كون المعارض عشر سور ، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن .

وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود .

فقوله : مثله ، أي مثل هذه عشر السور ، وهذه السور أكثرها مدني ، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد ؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس .

والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم ، عائد على من طلب منهم المعارضة ، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين .

وجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التعظيم ، كما جاء { فإن لم يستجيبوا لك } قاله : مجاهد .

وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين ، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق ، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه .

واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو ، وأن توحيده واجب ، فهل أنتم مسلمون ؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة ؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند الله .

ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام ، وقال مقاتل : بعلم الله ، بإذن الله .

وقال الكلبي : بأمره .

وقال القتبي : من عند الله ، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم ، وفي لكم عائد على الكفار ، لعود الضمير على أقرب مذكور ، ولكون الخطاب يكون لواحد .

ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم ، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم ، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو ، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام ، لا أنه يراد به الإخلاص .