هذه السنة يخوف الله بها المشركين الذين كانوا يواجهون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالإسراف عليه ، وتكذيبه ، وإيذائه والمؤمنين معه . وينبههم إلى أنه رحمة بهم لم يرسل إليهم بخارقة مادية ، يتبعها هلاكهم ، إذا هم كذبوا بها كما كذب من قبلهم . إنما أرسل إليهم بكتاب يشرفهم لأنه بلغتهم ، ويقوم حياتهم ، ويخلق منهم أمة ذات سيادة في الأرض وذكر في الناس . وهو مفتوح للعقول تتدبره ، وترتفع به في سلم البشرية :
( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) . .
إن معجزة القرآن معجزة مفتوحة للأجيال ، وليست كالخوارق المادية التي تنقضي في جيل واحد ، ولا يتأثر بها إلا الذين يرونها من ذلك الجيل .
ولقد كان به ذكر العرب ومجدهم حين حملوا رسالته فشرقوا بها وغربوا . فلم يكن لهم قبله ذكر ، ولم يكن معهم ما يعطونه للبشرية فتعرفه لهم وتذكرهم به . ولقد ظلت البشرية تذكرهم وترفعهم طالما استمسكوا بهذا الكتاب ، وقادوا به البشرية قرونا طويلة ، فسعدوا وسعدت بما معهم من ذلك الكتاب . حتى إذا تخلوا عنه تخلت عنهم البشرية ، وانحط فيها ذكرهم ، وصاروا ذيلا للقافلة يتخطفهم الناس ، وكانوا بكتابهم يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون !
وما يملك العرب من زاد يقدمونه للبشرية سوى هذا الزاد . وما يملكون من فكرة يقدمونها للإنسانية سوى هذه الفكرة . فإن تقدموا للبشرية بكتابهم ذاك عرفتهم وذكرتهم ورفعتهم ، لأنها تجد عندهم ما تنتفع به . فأما إذا تقدموا إليها عربا فحسب بجنسية العرب . فما هم ? وما ذاك ? وما قيمة هذا النسب بغير هذا الكتاب ? إن البشرية لم تعرفهم إلا بكتابهم وعقيدتهم وسلوكهم المستمد من ذلك الكتاب وهذه العقيدة . . لم تعرفهم لأنهم عرب فحسب . فذلك لا يساوي شيئا في تاريخ البشرية ، ولا مدلول له في معجم الحضارة ! إنما عرفتهم لأنهم يحملون حضارة الإسلام ومثله وفكرته . وهذا أمر له مدلوله في تاريخ البشرية ومعجم الحضارة !
. . ذلك ما كان يشير إليه القرآن الكريم ، وهو يقول للمشركين ، الذين كانوا يواجهون كل جديد يأتيهم منه باللهو والإعراض والغفلة والتكذيب : ( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم . أفلا تعقلون ? ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه ، لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم ، فيه حديثكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، قوله : فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال : حديثكم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كَتابا فيه ذِكْرُكُمْ قال : حديثكم : أفَلا تَعْقِلونَ قال : «قد أفلح » بَلْ أتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا سفيان : نزل القرآن بمكارم الأخلاق ، ألم تسمعه يقول : لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكُمْ كِتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أفَلا تَعْقِلُونَ ؟
وقال آخرون : بل عُني بالذكر في هذا الموضع : الشرفُ ، وقالوا : معنى الكلام : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه شرفكم .
قال أبو جعفر : وهذا القول الثاني أشبه بمعنى الكلمة ، وهو نحو مما قال سفيان الذي حكينا عنه ، وذلك أنه شرفٌ لمن اتبعه وعمل بما فيه .
استئناف جوابٌ عن قولهم { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون ، وتجهيلاً لألبابهم التي لم تُدرك عِظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان .
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقاً ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عَمُوا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : { ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم } [ الأنبياء : 23 ] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية .
ولقصد هذا الإيقاظ صُدِّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل { أنزلنا } بحرف ( إلى ) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب « إلى » هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظراً إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم . وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم .
وتنكير { كتاباً } للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مُدَانِيه .
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله { ذكر رحمة ربك عبده زكرياء } [ مريم : 2 ] . وقد أوثر هذا المصدر هنا وجُعل معرفاً بالإضافة إلى ضمير المخاطبين ليكون كلاماً موجهاً فيصح قصد المعنيين معاً من كلمة ( الذكر ) بأن مجيء القرآن مشتملاً على أعظم الهدى ، وهو تذكير لهم بما به نهاية إصلاحهم ، ومجيئه بلغتهم ، وفي قومهم ، وبواسطة واحد منهم ، سمعةٌ عظيمة لهم كما قال تعالى : { بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 195 ] وقال { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم } [ البقرة : 151 ] .
وقد فسر السلف هذه الآية بالمعنيين . وفي « تفسير الطبري » هنا قال جماعة : معنى « فيه ذكركم » أنه الشرَف ، أي فيه شرفكم . وقال ابن عطية : يحتمل أن يريد فيه شرفكم وذكركم آخر الدهر كما تذكر عظام الأمور ، وقد فُسر بمثل ذلك قوله تعالى { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] .
وعلى المعنيين يكون لِتفريع قوله تعالى { أفلا تعقلون } أحسنُ موقع لأن الاستفهام الإنكاري لنفي عقلهم متجه على كلا المعنيين فإن من جاءه ما به هديه فلم يهتد يُنكَر عليه سوء عقله ، ومن جاءه ما به مجده وسمعته فلم يعبأ به ينكر عليه سوء قدره للأمور حق قدرها كما يكون الفضل في مثله مضاعفاً .
وأيضاً فهو متفرع على الإقناع بإنزال القرآن آية تفوق الآيات التي سألوا مثلها وهو المفاد من الاستئناف ومن تأكيد الجملة بالقسم وحرففِ التحقيق قال تعالى : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } في سورة [ العنكبوت : 51 ] ، وذلك لإعجازه اللفظي والمعنوي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.