القول في تأويل قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمََنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } .
يقول تعالى ذكره يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشّفاعَةُ إلاّ شفاعة مَنْ أذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ أن يشفع وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ، وأدخل في الكلام له دليلاً على إضافة القول إلى كناية «مَنْ » وذلك كقول القائل الاَخر : رضيت لك عملك ، ورضيته منك ، وموضع مَن من قوله إلاّ مَنْ أذِنَ لَهُ نصب لأنه خلاف الشفاعة .
و { من } في قوله { إلا من } يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً وتكون { من } في موضع نصب يراد بها المشفوع له فكأن المعنى{ إلا من أذن له الرحمن } في أن يشفع له ، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً على تقدير » لكن من أذن له الرحمن يشفع « ، ف { من } في موضع نصب بالاستثناء ويصح أن يكون في موضع رفع كما يجوز الوجهان في قولك ما في الدار أحد إلا حماراً وإلا حمار والنصب أوجه { من } على هذه التأويلات للشافع ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه .
جملة { يومئذ لا تنفع الشفاعة } كجملة { يومئذ يتبعون الداعي } في معنى التفريع على { وخشعت الأصوات للرحمن } ، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلاّ همساً ولا يجرؤون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه . والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلاّ بإذنه ، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله .
واستثناء { مَن أذِنَ لهُ الرحمن } من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعاً ، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلاً ، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع ، فهو استثناء تام وليس بمفرغ .
واللاّم في { أذِنَ لهُ } لام تعدية فِعل { أَذِنَ } ، مثل قوله { قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم } [ الأعراف : 123 ] . وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم « فيقال لي : سلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشفّع » .
وقوله { ورضِيَ له قولاً } عائد إلى { مَن أذن له الرّحمان } وهو الشافع . واللاّم الداخلة على ذلك الضمير لام التّعليل ، أي رضي الرحمانُ قولَ الشّافع لأجل الشافع ، أي إكراماً له كقوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته ، فصار الإذن بالشّفاعة وقبولُها عنواناً على كرامة الشافع عند الله تعالى .
والمجرور متعلق بفعل { رضي } . وانتصب { قولاً } على المفعولية لفعل رضي لأن رضي هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره "يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشّفاعَةُ "إلاّ شفاعة "مَنْ أذِنَ لَهُ الرّحْمَنُ" أن يشفع "وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيرجع أحد التأويلين إلى الشفعاء: أنه لا أحد يشفع لأحد إلا من وفق له الرحمن في الدنيا بالتوحيد وشهادة الإخلاص، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أن ذلك اليوم لا تنفع شفاعة أحد في غيره، إلا شفاعة من أذن الله له أن يشفع، ورضي قوله فيها: من الأنبياء والأولياء والصديقين والمؤمنين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دليلُ الخطابِ أَنَّ مَنْ أَذِنَ له في الشفاعةِ تنفعه الشفاعةُ، وإذا قُبلَتْ شفاعة أحدٍ بإذن الرحمن فَمِنَ المُحالِ ألاَّ تُقْبَلَ شفاعةُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم -وهو أفضل الكافة، وشفاعةُ الأكابر من صفوته مقبولةٌ في الأصاغر في المُؤجَلِّ وفي المُعَجّل...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ورضي له قولا) أي: قول لا إله إلا الله، وهو القول المرضي عند الله.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي الصحيحين، من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال: "آتي تحت العرش، وأخر لله ساجدًا، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع واشفع تشفع". قال: "فيحد لي حدًّا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود"، فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وفي الحديث [أيضًا] يقول تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، فَيُخْرِجُون خلقا كثيرا، ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرّة، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّة من إيمان "الحديث.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
ومن في قوله {إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [طه: 109]. يحتمل أن تكون للشافع، ويحتمل أن تكون للمشفوع فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة: {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم {لا تنفع الشفاعة} أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادئ بدا أفظع، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع {إلا} أي إلا شفاعة {من أذن له الرحمن} العام النعمة {ورضي له قولاً} ولو الإيمان المجرد.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: إن الشفاعة لا تكون نافعة للمشفوع له إلا بشرطين:
(2) رضا الله عن قول صدر من المشفوع له، ليأذن بشفاعة الشافع له. وقصارى ذاك: إنما تنفع الشفاعة لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، وكان له قول يرضي. وبمعنى الآية قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة:255] وقوله: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [النجم: 26] وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء:28]، وقوله: {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} [النبأ:38].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {يومئذ لا تنفع الشفاعة} كجملة {يومئذ يتبعون الداعي} في معنى التفريع على {وخشعت الأصوات للرحمن}، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلاّ همساً ولا يجرؤون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلاّ بإذنه، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.
واستثناء {مَن أذِنَ لهُ الرحمن} من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعاً، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلاً، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.
واللاّم في {أذِنَ لهُ} لام تعدية فِعل {أَذِنَ}، مثل قوله {قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم} [الأعراف: 123]. وتفسير هذا ما ورد في حديث الشفاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم « فيقال لي: سلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشفّع».
وقوله {ورضِيَ له قولاً} عائد إلى {مَن أذن له الرّحمان} وهو الشافع. واللاّم الداخلة على ذلك الضمير لام التّعليل، أي رضي الرحمانُ قولَ الشّافع لأجل الشافع، أي إكراماً له كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1] فإن الله ما أذن للشافع بأن يشفع إلا وقد أراد قبول شفاعته، فصار الإذن بالشّفاعة وقبولُها عنواناً على كرامة الشافع عند الله تعالى.
والمجرور متعلق بفعل {رضي}. وانتصب {قولاً} على المفعولية لفعل رضي لأن رضي هذا يتعدى إلى الشيء المرضي به بنفسه وبالباء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كأنه لا بد من شرطين لقبول الشفاعة وهو إذن الله تعالى، ولا يكون الإذن إلا من مرضي القول مقبول، لأنه تكريم من الله عز وجل لأجل الاستقامة، والعدالة في القول، فلا يشفع لأثيم، وقلنا: إن هذا يكون تكريما للشفيع ولرحمة العباد، وهو مقدر في علمه المكنون، فالشفاعة لا تغير مقدورا، ولكن تنفذ المقدور، وقوله تعالى: {ورضي له قولا} التنكير هنا لتعميم القول لا لتخصيصه، أي رضي الله سبحانه وتعالى له قولا أيَّ قول، أي كان الصادق الأمين عند الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا لرسول من المقربين المصطفين الأخبار.
والشفاعة تقتضي مشفوعا له وهو الإنسان، وشافعا وهو الأعلى منزلة، ومشفوعا عنده: والمشفوع عنده لا يسمح بالشفاعة هكذا ترتجلها من نفسك، إنما لا بد أن يأذن لك بها، وأن يضعك في مقام ومرتبة الشفاعة، وهذا شرط في الشافع. وقوله تعالى: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} هذه للمشفوع له، أن يقول قولا يرضى الله عنه – وإن قصر في جهة أخرى – وخير ما يقوله العبد ويرضى عنه الله أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذه مقولة مرضية عند الله، وهي الأمل الذي يتعلق به، والبشرى لأهل المعاصي؛ لأنها كفيلة أن تدخلهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كان لديك خصلة سيئة، أو نقطة ضعف في تاريخك تراها عقبة فلا تيأس، وانظر إلى زاوية أخرى في نفسك تكون أقوى، فأكثر بها الحسنات، لأن الحسنات يذهبن السيئات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم، فإنّه يضيف مباشرةً: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست اعتباطية وعشوائية، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها، سواء ما يتعلّق بالشافعين أو المشفوع لهم، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة، فلا معنى حينئذ لها. والحقيقة هي أنّ جماعة ينظرون إلى الشفاعة بمنظار خاطئ، فهم يتصورون أنّها لا تختلف عن أساليب الدنيا ومراوغاتها، في حين أنّ الشفاعة في منطق الإسلام مرحلة تربوية متقدّمة، وعامل مساعد لهؤلاء الذين يطوون طريق الحقّ بجدّ وسعي إلاّ أنّهم يبتلون أحياناً بالنقائص والزلاّت، ولعلّ من الممكن أن يعلو غبار اليأس والقنوط قلوبهم نتيجة هذه الزلاّت والهفوات، هنا تأتي إليهم الشفاعة كقوّة محرّكة وتقول: لا تيأسوا، واستمروا في طريقكم، ولا تكفوا أيديكم عن السعي والاجتهاد في هذا المسير، وإذا ما بدر منكم زلل وهفوات فإنّ هناك شفعاء سيشفعون لكم عند الله الرحمن الذي وسعت رحمته كلّ شيء فيأذن لهم بالشفاعة. إنّ الشفاعة ليست دعوة للتقاعس، أو الفرار من تحمّل المسؤولية، أو أنّها ضوء أخضر لارتكاب المعاصي، بل هي دعوة إلى الاستقامة في طريق الحقّ، واجتناب الذنوب قدر الإمكان.