هذا الأفاك الأثيم . آية إفكه وعلامة إثمه ، أنه يصر على الباطل ويستكبر على الحق ويتعالى عن الخضوع لآيات الله ، ولا يتأدب بالأدب اللائق مع الله :
( يسمع آيات الله تتلى عليه ، ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ) . .
وهذه الصورة البغيضة ولو أنها صورة فريق من المشركين في مكة ، إلا أنها تتكرر في كل جاهلية ، وتتكرر اليوم وغداً . فكم في الأرض ، وبين من يقال إنهم مسلمون ، من يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ؛ لأنها لا توافق هواه ، ولا تسير مع مألوفه ، ولا تعاونه على باطله ، ولا تقره على شره ، ولا تتمشى له مع اتجاه !
والبشارة للخير . فهي هنا للسخرية . فإذا كان لا يسمع النذير ، فليأته الويل المنظور ، في صوت البشير ! زيادة في السخرية والتحقير !
يَسْمَعُ آياتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ يقول : يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه ثُمّ يُصِرّ على كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه ، ولا راجع عنه مُسْتَكْبِرا على ربه أن يذعن لأمره ونهيه كأنْ لَمْ يَسْمَعْها يقول : كأن لم يسمع ما تلي عليه من آيات الله بإصراره على كفره ، فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ . يقول : فبشر يا محمد هذا الأفّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له . أليم : يعني موجع في نار جهنم يوم القيامة .
وجعلت حالتُه أنه يسمع آيات الله ثم يُصرّ مستكبراً لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبراً عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم ، فلا جرم أن يكون أفاكاً أثيماً بَلْهَ ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم .
والمراد ب { كل أفّاك أثيم } جميع المشركين الذين كذبوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعاندوا في معجزة القرآن وقالوا { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } [ سبإ : 31 ] وبخاصة زعماء أهل الشرك وأيمة الكفر مثل النضْر بنِ الحارث ، وأبي جهل وقرنائهم . و { آيات الله } أي القرآن فإنها المتلوة . و { ثم } للتراخي الرتبي لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب ، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخراً عن سماع الآيات .
والإصرار : ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه ، وحُذف متعلق { يصِرّ } لدلالة المقام عليه ، أي يُصرُّون على كفرهم كما دل على ذلك قوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [ الجاثية : 6 ] .
وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات ، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث إن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها .
و { كَأنْ } أصلها ( كأنَّ ) المشددة فخففت فقدر اسمها وهو ضمير الشأن . وفرّع على حالتهم هذه إنذارهم بالعذاب الأليم وأطلق على الإنذار اسم البشارة التي هي الإخبار بما يسر على طريقة التهكم .
والمراد بالعلم في قوله : { وإذا علم من آياتنا شيئاً } السمع ، أي إذا ألقى سمعه إلى شيء من القرآن اتخذه هُزؤاً ، أي لا يَتلقى شيئاً من القرآن إلا ليجعله ذريعة للهزء به ، ففعل { عَلِم } هنا متعدّ إلى واحد لأنه بمعنى عَرف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يسمع آيات الله تتلى} يعني القرآن.
{عليه ثم يصر مستكبرا} يعني يصر: يقيم على الكفر بآيات القرآن، فيعرض عنها متكبرا، يعني عن الإيمان بآيات القرآن.
{كأن لم يسمعها} يعني آيات القرآن وما فيه.
{فبشره بعذاب أليم} يعني وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَسْمَعُ آياتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ" يقول: يسمع آيات كتاب الله تُقرأ عليه،
"ثُمّ يُصِرّ" على كفره وإثمه فيقيم عليه غير تائب منه، ولا راجع عنه "مُسْتَكْبِرا" على ربه أن يذعن لأمره ونهيه "كأنْ لَمْ يَسْمَعْها" يقول: كأن لم يسمع ما تلي عليه من آيات الله بإصراره على كفره.
"فَبَشّرْهُ بعَذَابٍ ألِيمٍ" يقول: فبشر يا محمد هذا الأفّاك الأثيم الذي هذه صفته بعذاب من الله له، "أليم": يعني موجع في نار جهنم يوم القيامة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{آيات الله تُتلى عليه} آيات وحدانية الله عز وجل وآيات رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر عن تعنّته وعناده في آيات الله حين قال: {ثم يُصرّ مستكبرا} بعد تلاوة الآيات عليه وبعد معرفته وفهمه أنها آيات الله كما كان يُصرّ قبل ذلك؛ لأنها آيات خارجات عن وُسعهم، إذ عجزوا عن إتيان مثلها.
فإذا كانت خارجة عن احتمال وُسعهم، فكذلك هي خارجات عن وُسع محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو واحد من البشر مثلهم، فعرفوا أنه إنما قدر على إتيان مثلها بالله تعالى بما أوحي إليه، وأعلمه بذلك.
{كأن لم يسمعها} عنادا منه واستكبارا...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} فيه تأويلان: الثاني: أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه. وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها، قاله ابن عيسى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُصِرُّ} يقبل على كفره ويقيم عليه، وأصله من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحى عليها صارّاً أذنيه.
{مُسْتَكْبِراً} عن الإيمان بالآيات والإذعان لما ينطق به من الحق، مزدرياً لها معجباً بما عنده. قيل: نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، ويشغل الناس بها عن استماع القرآن. والآية عامّة في كل ما كان مضارّاً لدين الله.
فإن قلت: ما معنى ثم في قوله: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً}؟ قلت: كمعناه في قول القائل: يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُها **
وذلك أنّ غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه ويطلب الفرار عنها. وأمّا زيارتها والإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد، فمعنى ثم: الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعدما رآها وعاينها شيء يستعبد في العادات والطباع، وكذلك آيات الله الواضحة الناطقة بالحق، من تليت عليه وسمعها كان مستبعداً في العقول إصراره على الضلالة عندها واستكباره عن الإيمان بها
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يسمع آيات الله} أي دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها {تتلى} أي يواصل استماعه لها بلسان القال أو الحال من أيّ تال كان، عالية {عليه} بجميع ما فيها من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق.
ولما كانت تلاوتها موجبة لإقلاعه فكان إصراره مع بعد رتبته في الشناعة مستبعداً كونه قال: {ثم يصر} أي يدوم دواماً عظيماً على قبيح ما هو فيه حال كونه {مستكبراً} أي طالباً الكبر عن الإذعان وموجداً له.
ولما كان مع ما ذكر من حاله يجوز أن يكون سماعه لها، خفف من مبالغته في الكفر، بين أنها لم تؤثر فيه نوعاً من التأثير، فكان قلبه أشد قسوة من الحجر فقال-: {كأن} أي كأنه {لم يسمعها} فعلم من ذلك ومن الإصرار وما قيد به من الاستكبار أن حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء، وقد علم بهذا الوصف أن كل- من لم ترده آيات الله تعالى كان مبالغاً في الإثم والإفك، فكان له الويل.
ولما كان الإصرار معناه الدوام المتحكم، لم يذكر الوقر الذي هو من الأمراض الثابتة كما ذكره في سورة لقمان، قال ابن القطاع وابن ظريف في أفعالهما، أصر على الذنب والمكروه: أقام، وقال الأصفهاني تبعاً لصاحب الكشاف: وأصله من أصر الحمار على العانة، وهو أن ينحني عليها صاراً أذنيه.
ولما أخبر عن ثباته على الخبث، سببب عنه تهديده في أسلوب دال -بما فيه من التهكم- على شدة الغضب وعلى أنه إن كان له بشارة فهي العذاب فلا بشارة له أصلاً فقال تعالى: {فبشره} أي على هذا الفعل الخبيث {بعذاب} لا يدع له عذوبة أصلاً {أليم} أي بليغ الإيلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الصورة البغيضة ولو أنها صورة فريق من المشركين في مكة، إلا أنها تتكرر في كل جاهلية، وتتكرر اليوم وغداً. فكم في الأرض، وبين من يقال إنهم مسلمون، من يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها؛ لأنها لا توافق هواه، ولا تسير مع مألوفه، ولا تعاونه على باطله، ولا تقره على شره، ولا تتمشى له مع اتجاه! (فبشره بعذاب أليم).. والبشارة للخير. فهي هنا للسخرية. فإذا كان لا يسمع النذير، فليأته الويل المنظور، في صوت البشير! زيادة في السخرية والتحقير!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جعلت حالتُه أنه يسمع آيات الله ثم يُصرّ مستكبراً؛ لأن تلك الحالة وهي حالة تكرر سماعه آيات الله وتكرر إصراره مستكبراً عنها تحمله على تكرير تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وتكرير الإثم، فلا جرم أن يكون أفاكاً أثيماً، بَلْهَ ما تلبس به من الشرك الذي كله كذب وإثم...
و {آيات الله} أي القرآن فإنها المتلوة. و {ثم} للتراخي الرتبي؛ لأن ذلك الإصرار بعد سماع مثل تلك الآيات أعظم وأعجب، فهو يصر عند سماع آيات الله وليس إصراره متأخراً عن سماع الآيات.
والإصرار: ملازمة الشيء وعدم الانفكاك عنه، وحُذف متعلق {يصِرّ} لدلالة المقام عليه، أي يُصرُّون على كفرهم... وشبه حالهم في عدم انتفاعهم بالآيات بحالهم في انتفاء سماع الآيات، وهذا التشبيه كناية عن وضوح دلالة آيات القرآن بحيث إن من يسمعها يصدق بما دلت عليه فلولا إصرارهم واستكبارهم لانتفعوا بها.
و {كَأنْ} أصلها (كأنَّ) المشددة فخففت، فقدر اسمها وهو ضمير الشأن.