قوله تعالى : { بل } يعني : دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، { نقذف } نرمي ونسلط ، { بالحق } بالإيمان ، { على الباطل } على الكفر وقيل : الحق قول الله ، فإنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولداً ، { فيدمغه } يعني : يهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، { فإذا هو زاهق } ذاهب ، والمعنى : أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال : { ولكم الويل } يا معشر الكفار ، { مما تصفون } الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد . وقال مجاهد : مما تكذبون .
إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو ، إنما يكون هناك جد ، ويكون هناك حق ، فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض :
( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . .
و( بل )للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ؛ والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل ، فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة ، فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا ، طاريء لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ، ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ؛ وأدركوا أنه الابتلاء ؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفا أو نقصا ؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ، وأن يجعلهم ستار القدرة ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء ، وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق )والله يفعل ما يريد .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكن ننزل الحقّ من عندنا ، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله ، فيَدْمَغُهُ يقول : فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجّه على رأسه شجة تبلغ الدماغ ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة .
وقوله فإذَا هُوَ زَاهِقٌ يقول : فإذا هو هالك مضمحلّ كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فإذَا هَوَ زَاهِقٌ قال : هالك .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإذَا هُوَ زَاهِقٌ قال : ذاهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَلْ نَقْذِفُ بالحَقّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذَا هُوَ زَاهِقٌ والحقّ كتاب الله القرآن ، والباطل : إبليس ، فَيدْمَغُهُ فإذَا هُوَ زَاهِقٌ أي ذاهب .
وقوله : وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ يقول : ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته ، وقِيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا ، وفِريتكم عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أن بعضهم قال : معنى تصفون تكذبون . وقال آخرون : معنى ذلك : تشركون . وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمتفقة معانيه لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك ، وأشرك به ، ووصفه بغير صفته . غير أن أولى العبارات أن يُعَبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه . ذكر من قال ما قلنا في ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَكُمْ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ أي تكذبون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفونَ قال : تشركون وقوله عَمّا يَصِفُونَ قال : يشركون قال : وقال مجاهد : سيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال : قولَهم الكذب في ذلك .
{ بل نقذف بالحق على الباطل } إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه لذاته عن اللعب أي بل من شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من عداده اللهو . { فيدمغه } فيمحقه ، وإنما استعار لذلك القذف وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمى ، والدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشق غشاؤه المؤدي إلى زهوق الروح تصويرا لإبطاله ومبالغة فيه ، وقرئ { فيدمغه } بالنصب كقوله :
سأترك منزلي لبني تميم *** وألحق بالحجاز فاستريحا
ووجهه مع بعده الحمل على المعنى والعطف على " الحق " . { فإذا هو زاهق } هالك والزهوق ذهاب الروح وذكره لترشيح المجاز . { ولكم الويل مما تصفون } مما تصفونه به مما لا يجوز عليه ، وهو في موضع الحال وما مصدرية أو موصولة أو موصوفة .
( بل ) للإضراب عن اتخاذ اللهو وعن أن يكون الخَلق لعباً إضرابَ إبطال وارتقاء ، أي بل نحن نعمد إلى باطلكم فنقذف بالحق عليه كراهيةً للباطل بَلْهَ أن نعمل عملاً هو باطل ولعب .
والقذف ، حقيقته : رمي جسم على جسم . واستعير هنا لإيراد ما يزيل ويبطل الشيء من دليل أو زَجْر أو إعدامٍ أو تكوين ما يغلب ، لأن ذلك مثل رمي الجسم المبطل بشيء يأتي عليه ليتلفه أو يشتته ، فالله يبطل الباطل بالحقّ بأن يبين للناس بطلان الباطل على لسان رسله ، وبأن أوجَد في عقولهم إدراكاً للتمييز بين الصلاح والفساد ، وبأن يسلط بعض عباده على المبطلين لاستئصال المبطلين ، وبأن يخلق مخلوقات يسخرها لإبطال الباطل ، قال تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } في سورة الأنفال ( 12 ) .
والدمغ : كَسْر الجسم الصُلب الأجوف ، وهو هنا ترشيح لاستعارة القذف لإيراد ما يبطل ، وهو استعارة أيضاً حيث استعير الدمغ لمحق الباطل وإزالتِه كما يزيل القذف الجسم المقذوف ، فالاستعارتان من استعارة المحسوسين للمعقولين .
ودل حرف المفاجأة على سرعة محق الحقّ الباطلَ عند وروده لأن للحقّ صولة فهو سريع المفعول إذا ورد ووضح ، قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابيا } إلى قوله تعالى : { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } في سورة الرعد ( 17 ) .
والزاهق : المنفلت من موضعه والهالك ، وفِعله كسمع وضرب ، والمصدر الزهوق . وتقدم في قوله تعالى : { وتَزْهَقَ أنفسُهم وهم كافرون } في سورة براءة ( 55 ) وقوله تعالى : { إن الباطل كان زهوقاً } في سورة الإسراء ( 81 ) .
وعندما انتهت مقارعتهم بالحجج الساطعة لإبطال قولهم في الرسول وفي القرآن ابتداء من قوله تعالى : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } إلى قوله تعالى : { كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 3 5 ] . وما تخلل ذلك من المواعظ والقوارع والعبر . خُتم الكلام بشتمهم وتهديدهم بقوله تعالى : { ولكم الويل مما تصفون } ، أي مما تصفون به محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن .
والويل : كلمة دعاء بسوء . وفيها في القرآن توجيه لأن الوَيْل اسم للعذاب .