قوله تعالى :{ الذي جعل لكم الأرض مهداً }
قرأ أهل الكوفة " مهداً " هاهنا وفي الزخرف فيكون مصدراً ، أي فرشاً . وقرأ الآخرون : مهاداً كقوله تعالى : ( ألم نجعل الأرض مهاداً ) أي : فراشاً وهو اسم ما يفرش كالبساط اسم لما يبسط { وسلك لكم فيها سبلاً } السلك : إدخال الشيء في الشيء والمعنى : أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها . قال ابن عباس : سلك لكم فيها طرقاً تسلكونها { وأنزل من السماء ماءً } يعني : المطر . تم الإخبار عن موسى ، ثم أخبر الله عن نفسه بقوله : { فأخرجنا به } بذلك الماء { أزواجاً } أصنافاً { من نبات شتى } مختلف الألوان والطعوم والمنافع من أبيض وأحمر وأخضر وأصفر ، فكل صنف منها زوج ، فمنها للناس ، ومنها للدواب .
ثم يستطرد فيعرض على فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان . فيختار بعض هذه الآثار المحيطة بفرعون ، المشهودة له في مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور والزرع والأنعام :
( الذي جعل لكم الأرض مهدا ، وسلك لكم فيها سبلا ، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى . كلوا وارعوا أنعامكم . إن في ذلك لآيات لأولي النهي ) . .
والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان . مهد كمهد الطفل . وما البشر إلا أطفال هذه الأرض . يضمهم حضنها ويغذوهم درها ! وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة . جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه . فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها ؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم . . المعنيان متقاربان متصلان .
وصورة المهد وصفة التمهيد لا تبدو في بقعة من الأرض كما تبدو في مصر . ذلك الوادي الخصيب الأخضر السهل الممهد الذي لا يحوج أهله إلا إلى أيسر الكد في زرعه وجناه . وكأنما هو المهد الحاني على الطفل يضمه ويرعاه .
والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهدا ، شق للبشر فيها طرقا وأنزل من السماء ماء . ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض - ومنها نهر النيل القريب من فرعون - فيخرج النبات أزواجا من أجناس كثيرة . ومصر أظهر نموذج لأخراج النبات لطعام الإنسان ورعي الحيوان .
وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجا كسائر الأحياء . وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها . والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير ، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحيانا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية . وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع . .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّىَ } .
اختلف أهل التأويل في قراءة قوله مَهْدا فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة : «الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادا » بكسر المِيم من المِهاد وإلحاق ألف فيه بعد الهاء ، وكذلك عملهم ذلك في كلّ القرآن . وزعم بعض من اختار قراءة ذلك كذلك ، أنه إنما اختاره من أجل أن المهاد : اسم الموضّع ، وأن المهد الفعل قال : وهو مثل الفرش والفراش . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : مَهْدا بمعنى : الذي مهد لكم الأرض مهدا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قَرأة الأمصار مشهورتان ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب فيها .
وقوله : " وَسَلَكَ لَكُمْ فيها سُبُلاً " يقول : وأنهج لكم في الأرض طرقا . والهاء في قوله فيها : من ذكر الأرض ، كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة " وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً " : أي طرقا .
وقوله : " وأنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً " يقول : وأنزل من السماء مطرا فأخرجنا به أزْوَاجا مِنْ نَباتٍ شَتّى وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إنعامه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي ينزله من سمائه إلى أرضه ، بعد تناهي خبره عن جواب موسى فرعون عما سأله عنه وثنائه على ربه بما هو أهله . يقول جلّ ثناؤه : فأخرجنا نحن أيها الناس بما ننزل من السماء من ماء أزواجا ، يعني ألوانا من نبات شتى ، يعني مختلفة الطعوم ، والأراييح والمنظر . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : م " ِنْ نَباتٍ شَتّى " يقول : مختلف .
{ الذي جعل لكم الأرض مهدا } مرفوع صفة ل { ربي } أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح . وقرأ الكوفيون هنا وفي " الزخرف " { مهدا } أي كالمهد تتمدونها ، وهو مصدر رسمي به ، والباقون مهادا وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ولم يختلفوا في الذي في " النبأ " { وسلك لكم فيها سبلا } وجعل لكم فيها سبلا بين الجبال والأدوية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها . { وأنزل من السماء ماء } مطرا . { فأخرجنا به } عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى ، تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته ، وعلى هذا نظائره كقوله { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق } الآية . أزواجا أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض . من نبات بيان أو صفة لأزواجا وكذلك : { شتى } ويحتمل أن يكون صفة ل { نبات } فإنه من حيث أنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع ، وهو جمع شتيت كمريض ومرضى أي متفرقات في الصور والأغراض والمنافع يصلح بعضها للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال : { كلوا وارعوا أنعامكم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر موسى، عليه السلام، صنع الله، عز وجل، ليعتبر به فرعون، فقال: {الذي جعل لكم الأرض مهدا} يعني: فراشا، {وسلك لكم} يعني: وجعل لكم {فيها سبلا} يعني: طرقا في الأرض،
{وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به} يعني: بالمطر {أزواجا من نبات شتى}، من الأرض يعني: مختلفا من كل لون من النبت منها للدواب، ومنها للناس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في قراءة قوله: مَهْدا" فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة: «الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادا» (بكسر المِيم من المِهاد وإلحاق ألف فيه بعد الهاء)، وكذلك عملهم ذلك في كلّ القرآن. وزعم بعض من اختار قراءة ذلك كذلك، أنه إنما اختاره من أجل أن المهاد: اسم الموضّع، وأن المهد الفعل قال: وهو مثل الفرش والفراش. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "مَهْدا" بمعنى: الذي مهد لكم الأرض مهدا.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قَرأة الأمصار مشهورتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيها.
وقوله: "وَسَلَكَ لَكُمْ فيها سُبُلاً" يقول: وأنهج لكم في الأرض طرقا. والهاء في قوله فيها: من ذكر الأرض...
وقوله: "وأنْزَلَ مِنَ السّماءِ ماءً" يقول: وأنزل من السماء مطرا فأخرجنا به "أزْوَاجا مِنْ نَباتٍ شَتّى" وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إنعامه على خلقه بما يحدث لهم من الغيث الذي ينزله من سمائه إلى أرضه، بعد تناهي خبره عن جواب موسى فرعون عما سأله عنه وثنائه على ربه بما هو أهله. يقول جلّ ثناؤه: فأخرجنا نحن أيها الناس بما ننزل من السماء من ماء أزواجا، يعني ألوانا من نبات شتى، يعني مختلفة الطعوم، والأراييح والمنظر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جعل لكم الأرض بحيث تفترشون، وتتعيشون فيها، وتقرون عليها، بعد ما كادت تميد بكم {وسلك لكم فيها سبلا} أي طرقا تسلكون فيها، وتختلفون إلى البلدان النائية في حوائجكم وما به معاشكم وقوامكم ما لولا ذلك ما قام معاشكم، ولا قضيت حوائجكم.
وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به} أي الماء {أزواجا من نبات شتى} ما به معاشكم وقوامكم وقوام أنعامكم على اختلاف ما جعل لكل دابة من ذلك قوتا وغذاء، لم يجعل ذلك لغيرها، لأن من الدواب ما يأكل النبات، ومنها ما يأكل اللحم ونحوه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جَعَلَ الأرضَ مستقراً لأبدانهم، وجعل أبدانَهم مستقراً لعبادته، وقلوبهم مستقراً لمعرفته، وأرواحَهم مستقراً لمحبته، وأسرارهم مستقراً لمشاهدته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
انظر إن هذه الأشياء التي ذكرها موسى عليه السلام هي مما تقضي بداهة العقول أن فرعون وكل بشر بعيد منها لأنه لو قال هو القادر الرازق المريد العالم ونحو هذا من العبارات لأمكن فرعون أن يغالط فيقول أنا أفعل هذا كله فإنما أتاه موسى عليه السلام بصفات لا يمكنه أن يقول إن ذلك له.
... اعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة...
أولها: قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض مهدا}... المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع... وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء}...
وثانيها: قوله تعالى: {وسلك لكم فيها سبلا}... أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري...
وثالثها: قوله: {وأنزل من السماء ماء} والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله: {فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى...لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله... إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله: {لا يضل ربي ولا ينسى}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال: {الذي جعل لكم} أيها الخلائق {الأرض} أي أكثرها {مهداً} تفترشونها، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً -إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف {وسلك لكم فيها سبلاً} أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع {وأنزل من السماء ماء} تشاهدونه واحداً في اللون والطعم. ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول. استغرق صلى الله عليه وسلم في بحار الجلال، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكلام هو المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان، فعبر عن ذلك، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله: {فأخرجنا} أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة {به أزواجاً} أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شبيه له {من نبات شتى} أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم استطرد في هذا الدليل القاطع، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها، والقرار، والبناء، والغراس، وإثارتها للازدراع وغيره، وذللها لذلك، ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم. {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي: نفذ لكم الطرق الموصلة، من أرض إلى أرض، ومن قطر إلى قطر، حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون، وينتفعون بأسفارهم، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ثم يستطرد فيعرض على فرعون آثار تدبير الله في الكون وآلائه على بني الإنسان. فيختار بعض هذه الآثار المحيطة بفرعون، المشهودة له في مصر ذات التربة الخصبة والماء الموفور والزرع والأنعام: (الذي جعل لكم الأرض مهدا، وسلك لكم فيها سبلا، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى. كلوا وارعوا أنعامكم. إن في ذلك لآيات لأولي النهي).. والأرض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان. مهد كمهد الطفل. وما البشر إلا أطفال هذه الأرض. يضمهم حضنها ويغذوهم درها! وهي ممهدة لهم كذلك للسير والحرث والزرع والحياة. جعلها الخالق المدبر كذلك يوم أعطى كل شيء خلقه. فأعطى هذه الأرض خلقها على الهيئة التي خلقت بها صالحة للحياة التي قدرها فيها؛ وأعطى البشر خلقهم كذلك على الهيئة التي خلقهم بها صالحين للحياة في هذه الأرض التي مهدها لهم وجعلها مهدهم.. المعنيان متقاربان متصلان...
والخالق المدبر الذي جعل الأرض مهدا، شق للبشر فيها طرقا وأنزل من السماء ماء. ومن ماء المطر تتكون الأنهار وتفيض -ومنها نهر النيل القريب من فرعون- فيخرج النبات أزواجا من أجناس كثيرة. ومصر أظهر نموذج لإخراج النبات لطعام الإنسان ورعي الحيوان. وقد شاء الخالق المدبر أن يكون النبات أزواجا كسائر الأحياء. وهي ظاهرة مطردة في الأحياء كلها. والنبات في الغالب يحمل خلايا التذكير، وخلايا التأنيث في النبتة الواحدة وأحيانا يكون اللقاح في نبتة ذكر منفردة كما هو الحال في الفصائل الحيوانية. وبذلك يتم التناسق في نواميس الحياة ويطرد في كل الفصائل والأنواع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فقوله {الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَاداً} خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من {ربي} [طه: 52]، أي هو ربّ موسى. وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهاداً فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقاً بالإلهية...
والعدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلّم في قوله: {فأخرجنا} التفات. وحسّنه هنا أنّه بعد أن حَجّ المشركين بحجّة انفراده بخلق الأرض وتسخير السماء مما لا سبيل بهم إلى نكرانه ارتقى إلى صيغة المتكلّم المطاع فإن الذي خلق الأرض وسخّر السماء حقيق بأن تطيعه القوى والعناصر، فهو يُخرج النّبات من الأرض بسبب ماء السماء، فكان تسخير النبات أثراً لتسخير أصل تكوينه من ماء السماء وتراب الأرض...وشتّى: جمع شتيت بوزن فَعلى، مثل: مريض ومَرضى. والشّتيت: المشتّت، أي المبعّد. وأريد به هنا التباعد في الصفات من الشكل واللّون والطعم، وبعضها صالح للإنسان وبعضها للحيوان.
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيئاً لهلك الناس جوعاً وعطشاً. فهو يدل على عظمته جل وعلا، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا.
فمعنى {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} أي: سواها ومهدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها. وليس معنى مهدها جعلها مستوية، إنما سواها لمهمتها، وإلا ففي الأرض جبال ومرتفعات ووديان، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها، فتسويتها تقتضي إصلاحها للعيش عليها، سواء بالاستواء أو التعرج أو الارتفاع أو الانخفاض...إذن: نقول التسوية: جعل الشيء صالحا لمهمته، سواء أكان بالاعتدال أو الاعوجاج، سواء أكان بالأمت أو بالاستقامة..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولمّا كان جانب من حديث موسى (عليه السلام) حول مسألة التوحيد ومعرفة الله، فإنّه يبيّن هنا فصلا آخر في هذا المجال، فيقول: (الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتّى). وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.
الأرض التي هي مهد استقرار الإنسان ومهاده، ويستطيع الإنسان العيش عليها براحة وأمان ببركة قانون الجاذبية، وكذلك الطبقة الغازية العظيمة التي تحيط بالأرض.
الطرق والسبل التي أوجدها الله في الأرض، والتي تربط جميع مناطقها بعضها بالبعض الآخر، كما رأينا غالباً وجود طرق ووديان بين سلسلة الجبال التي تناطح السّماء يستطيع الإنسان أن يمرّ من خلالها ويصل إلى مقصده.
الماء الذي هو أساس الحياة، ومصدر كلّ البركات، والذي اُنزل من السّماء.
الأعشاب والنباتات المختلفة التي تخرج من الأرض بفعل هذا الماء، ويشكّل قسم منها المواد الغذائية للإنسان، وقسم يستفيد منه الإنسان في صنع الأدوية، وقسم آخر يصنع ملابسه، وقسم آخر لوسائل الحياة كالأبواب، وحتّى البيوت التي تبنى من الخشب، والسفن، وكثير من وسائط النقل الاُخرى، بل يمكن القول: إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان، فقبل كلّ شيء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء، وبعده إلى طرق المواصلات، ثمّ الماء، ثمّ المحاصيل الزراعية.