البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ} (53)

شت الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق ، وأمر شتّ متفرّق ؛ وشتى فعلى من الشت وألفه للتأنيث جمع شتيت كمريض ومرضى ، ومعناه متفرقة ، وشتان اسم فاعل سحت : لغة الحجاز وأسحت لغة نجد وتميم ، وأصله استقصاء الحلق للشعر .

وقال الفرزدق وهو تميمي :

وعض زمان يا ابن مروان لم يك *** من المال إلا مسحت أو محلق

ثم استعمل في الإهلاك والإذهاب .

{ الذي جعل لكم الأرض مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى } .

ولما ذكر موسى دلالته على ربوبية الله تعالى وثم كلامه عند قوله { ولا ينسى } ذكر تعالى ما نبه به على قدرته تعالى ووحدانيته ، فأخبر عن نفسه بأنه تعالى هو الذي صنع كيت وكيت ، وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى { فأخرجنا } وقوله { كلوا وارعوا أنعامكم } وقوله { ولقد أريناه } فيكون قوله { فأخرجنا } و { أريناه } التفاتاً من الضمير الغائب في { جعل } وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ، ولا يكون الالتفات من قائلين وأبعد من ذهب إلى أن الذي نعت لقوله { ربي } فيكون في موضع رفع أو يكون في موضع نصب على المدح وقالهما الحوفي والزمخشري لكونه كان يكون كلام موسى فلا يتأتى الالتفات في قوله { فأخرجنا } { ولقد أريناه } .

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون { فأخرجنا } من كلام موسى حكاية عن الله تعالى على تقدير يقول عز وجل { فأخرجنا } ويحتمل أن يكون كلام موسى تم عند قوله { وأنزل من السماء ماء } ثم وصل الله كلام موسى بإخباره لمحمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالخطاب في لكم الخلق أجمع نبههم على هذه الآيات .

وقرأ الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة والكسائي { مَهْداً } بفتح الميم وإسكان الهاء ، وباقي السبعة مهاداً وكذا في الزخرف فقال المفضل : مصدران مهد مهداً ومهاداً .

وقال أبو عبيد : مهاد اسم ، ومهد الفعل يعني المصدر .

وقال آخر { مهداً } مفرد ومهاد جمعه ، ومعنى ذلك أنه تعالى جعلها لهم يتصرفون عليها في جميع أحوالهم ومنافعهم ، ونهج لكم فيها طرقاً لمقاصدكم حتى لا تتعذر عليكم مصالحكم .

والضمير في { به } عائد على الماء أي بسببه .

{ أزواجاً } أي أصنافاً وهذا الالتفات في أخرجنا كهو في قوله { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا } { أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا } { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } وفي هذا الالتفات تخصيص أيضاً بأنا نحن نقدر على مثل هذا ، ولا يدخل تحت قدرة أحد والأجود أن يكون { شتى } في موضع نصب نعتاً لقوله { أزواجاً } لأنها المحدث عنها .

وقال الزمخشري : يجوز أن يكون صفة للنبات ، والنبات مصدر سُمِّيَ به النابت كما سُمِّيَ بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع ، يعني أنها { شتى } مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .