مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ} (53)

واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر الدلالة الأولى وهي دلالة عامة تتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات ذكر بعد ذلك دلائل خاصة وهي ثلاثة . أولها : قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } وفيه أبحاث :

البحث الأول : قرأ أهل الكوفة ههنا وفي الزخرف { مهدا } والباقون قرؤوا مهادا فيهما قال أبو عبيدة : الذي اختاره مهادا وهو اسم والمهد اسم الفعل ، وقال غيره : المهد الاسم والمهاد الجمع كالفرش والفراش أجاب أبو عبيدة بأن الفراش اسم والفرش فعل ، وقال المفضل هما مصدران لمهد إذا وطأ له فراشا يقال مهد مهدا ومهادا وفرش فرشا وفراشا .

البحث الثاني : قال صاحب «الكشاف » : { الذي جعل } مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو لأنه صفة لربي أو منصوب على المدح وهذا من مظانه ومجازه ، واعلم أنه يجب الجزم بكونه خبرا لمبتدأ محذوف إذ لو حملناه على الوجهين الباقيين لزم كونه من كلام موسى عليه السلام ولو كان كذلك لفسد النظم بسبب قوله : { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

البحث الثالث : المراد من كون الأرض مهدا أنه تعالى جعلها بحيث يتصرف العباد وغيرهم عليها بالقعود والقيام والنوم والزراعة وجميع وجوه المنافع وقد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء } . وثانيها : قوله تعالى : { وسلك لكم فيها سبلا } قال صاحب «الكشاف » سلك من قوله : { ما سلككم في سقر } { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين } أي جعل لكم فيها سبلا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري . وثالثها : قوله : { وأنزل من السماء ماء } والكلام فيه قد مر في سورة البقرة أما قوله : { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { فأخرجنا } فيه وجوه . أحدها : أن يكون هذا من تمام كلام موسى عليه السلام كأنه يقول ربي الذي جعل لكم كذا وكذا فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى . وثانيها : أن عند قوله : { وأنزل من السماء ماء } تم كلام موسى عليه السلام ثم بعد ذلك أخبر الله تعالى عن صفة نفسه متصلا بالكلام الأول بقوله : { فأخرجنا به } .

ثم يدل على هذا الاحتمال قوله : { كلوا وارعوا أنعامكم } . وثالثها : قال صاحب «الكشاف » انتقل فيه من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للإيذان بأنه سبحانه وتعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره ومثله قوله تعالى : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } { أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } واعلم أن قوله : { فأخرجنا } إما أن يكون من كلام موسى عليه السلام أو من كلام الله تعالى والأول باطل لأن قوله بعد ذلك : { كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم } لا يليق بموسى عليه السلام وأيضا فقوله : { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } لا يليق بموسى لأن أكثر ما في قدرة موسى عليه السلام صرف المياه إلى سقي الأراضي وأما إخراج النبات على اختلاف ألوانها وطبائعها فليس من موسى عليه السلام فثبت أن هذا كلام الله ولا يجوز أن يقال كلام الله ابتداؤه من قوله : { فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } لأن الفاء يتعلق بما قبله فلا يجوز جعل هذا كلام الله تعالى وجعل ما قبله كلام موسى عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال : إن كلام موسى عليه السلام تم عند قوله : { لا يضل ربي ولا ينسى } ثم ابتدئ كلام الله تعالى من قوله : { الذي جعل لكم الأرض مهدا } ويكون التقدير هو الذي { جعل لكم الأرض مهدا } فيكون الذي خبر مبتدأ محذوف ويكون الانتقال من الغيبة إلى الخطاب التفاتا .

المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنه يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء فيكون للماء فيه أثر وهذا بتقدير ثبوته لا يقدح في شيء من أصول الإسلام لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أعطاها هذه الخواص والطبائع لكن المتقدمين من المتكلمين ينكرونه ويقولون لا تأثير له فيه ألبتة .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { أزواجا } أي أصنافا سميت بذلك لأنها مزدوجة مقرونة بعضها مع بعض { شتى } صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى ويجوز أن يكون صفة للنبات والنبات مصدر سمي به النابت كما يسمى بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم والطبع بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم .