قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } في هذا الموصول وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر{[24842]} ، أو منصوب بإضمار أمدح{[24843]} ، وهو{[24844]} على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى ، وإنما احتجنا إلى ذلك ، لأن قوله : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ }{[24845]} وقوله : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } وقوله : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } إلى قوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يتأتى{[24846]} أن يكون من كلام موسى ، فلذلك{[24847]} جعلناه من كلام الباري تعالى{[24848]} ، ويكون فيه التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه . فإن قلت{[24849]} : أجعله من كلام موسى يعني{[24850]} : أنه وصف ربَّه تعالى بذلك ، ثم التفت إلى الإخبار عن الله -تعالى- بلفظ التكلم ؟
قيل{[24851]} : إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول ، لأن المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه{[24852]} الالتفات المذكور وأخواته من كلام الله{[24853]} .
والثاني : أن " الَّذِي " صفة ل " رَبِّي " {[24854]} ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب " رَبِّي " {[24855]} . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله : { فَأخْرَجْنَا } وأخواته من عدم جواز الالتفات{[24856]} ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري{[24857]} والحوفي{[24858]} . وقال ابن عطية : إن كلام موسى تم عند قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً }{[24859]} وأن قوله : " فَأخْرَجْنَا " إلى آخره من كلام الله تعالى{[24860]} . وفيه بعد{[24861]} وقرأ الكوفيون{[24862]} " مَهْداً " بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف . والباقون{[24863]} : " مَهَاداً " بكسر الميم وفتح الحاء وألف بعدها{[24864]} . وفيه وجهان :
أحدهما : قال المفضل{[24865]} : إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً{[24866]} .
والثاني : أنهما مختلفان ، فالمِهَادُ هو الاسم ، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش ، فالفَرْش المصدر{[24867]} ، والفراش اسم لما يُفْرَش . أو أن مِهَاداً{[24868]} جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ{[24869]} وكَعْب وكِعَاب{[24870]} . ووصف الأرض بالمَهْد إما مبالغة ، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ{[24871]} .
قال أبو عبيد : الذي اختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل{[24872]} .
وقال غيره : المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاشِ{[24873]} .
أجاب أبو عبيد{[24874]} : بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ{[24875]} فعل{[24876]} .
قوله : " شَتَّى " فَعْلَى{[24877]} ، وألفه للتأنيث ، وهو جمع الشَّتيت{[24878]} نحو مَرْضَى في جميع مَرِيض ، وجَرْحَى في جمع جَرِيح ، وقتلى في جمع قتيل{[24879]} .
يقال : شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا{[24880]} وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ{[24881]} أي{[24882]} تفرق ، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى : افْتَرَقَ ، ولذلك لا يكتفي بواحد{[24883]} . وفي " شَتَّى " أوجه{[24884]} :
أحدها{[24885]} : أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج ، أي أزواجاً متفرقة ، بمعنى مختلفة الألوان ( والطعوم{[24886]} ){[24887]} .
والثاني : أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج ، وجاز{[24888]} مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة{[24889]} ، وهي " مِنْ نَبَاتٍ " {[24890]} .
الثالث : أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار ، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً{[24891]} فاعلاً .
الرابع : أنه في محل جر نعتاً لنبات ، قال الزمخشري : يجوز{[24892]} أن يكون صفة لنبات ، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت ، واستوى فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم{[24893]} واللون والرائحة والشكل ، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم{[24894]} ووافقه أبو البقاء أيضاً{[24895]} ، والظاهر الأول .
قوله : " كُلُوا " منصوب بقول محذوف ، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل " أخْرَجْنَا " تقديره : فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا{[24896]} .
وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى : { وَكُلُوا واشْرَبُوا }{[24897]} " وارْعُوا " ( رعى ) يكون لازماً ومتعدياً ، يقال : رَعَى دابَّته رعياً فهو راع ، ورعى الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية{[24898]} ، وَجَاء في الآية متعدياً{[24899]} ، و " النُّهَى " {[24900]} فيه قولان : أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة{[24901]} .
والثاني : أنَّها اسمٌ مفرد ، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى ، قاله أبو عليّ{[24902]} وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على " فُعَلٍ " من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى ، وأن بعضهم زاد لُقَى ، وأنشد عليه بيتاً{[24903]} . وهذا لفظ فيكون خامساً . والنُّهَى : العقل سُمِّي لعقل به ، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح{[24904]} .
لما ذكر موسى -عليه السلام{[24905]}- الدلالة الأولى ، وهي ( دِلاَلَةٌ عامَّة ){[24906]} تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال : " الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً " أي جعلها بحيث يتصرف العباد ، وغيرهم عليها من النوم{[24907]} ، والقُعُود ، والقِيَام ، والزراعة ، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى{[24908]} : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً }{[24909]} .
{ وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } السَّلْكُ : إدخال الشيء في الشيء ، أي : أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها{[24910]} .
قال ابن عباس : سَهَّل لكم فيها طرقاً{[24911]} . { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } تقدم الكلام فيه في البقرة{[24912]} " فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً " تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره : يقول ربِّي الذي جعل كذا وكذا " فأخْرَجْنَا " نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة " أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ " .
وتقدم{[24913]} أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى{[24914]} ، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى -عليه السلام{[24915]}- ، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي{[24916]} والحراسة ، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام{[24917]} ، فثبت أنه كلام الله تعالى{[24918]} .
وقوله : { أزْوَاجاً } أي أصنافاً سميت بذلك ، لأنها مزدوجة{[24919]} مقترنة بعضها ببعض . " شَتَّى " مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم .