الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ} (53)

قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ } : في هذا الموصولِ وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو منصوبٌ بإضمار " أمدح " ، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى ، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } ، وقوله : { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } وقولَه { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } إلى قوله { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى ؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى . ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه ، فإن قلتَ : أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى ، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ . قيل : إنما جَعَلناه التفاتاً في الوجهِ الأول ؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا ، فإنه لا يتأتَّى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله .

والثاني : أنَّ " الذي " صفةٌ ل " ربي " فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب " ربي " . وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله " فأَخْرَجْنا " وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي . وقال ابن عطية : " إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } وإنَّ قولَه " فأخرَجْنا " إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى " وفيه بُعْدٌ .

وقرأ الكوفيون " مَهْداً " بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ . والباقون " مِهاداً " بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها . وفيه وجهان : أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَدْتُه مَهْداً ومِهاداً ، والثاني : أنهما مختلفان ، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل ، أو أنَّ مِهاداً جمعُ مَهْد نحو : فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب . ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ : إمَّا مبالغةً ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذات مَهْدٍ .

قوله { شَتَّى } : " شَتَّى " فَعْلَى . وألفُه للتأنيث ، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو : مَرْضى في جمع مريض ، وجرحى في جمع جريح ، وقتلى في جمع قتيل . يقال : شَتَّ الأمر يَشِتُّ شَتَّاً وشَتاتاً فهو شَتٌّ أي تفرَّق . وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق ، ولذلك لا يُكتفى بواحد .

وفي " شَتَّى " أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها منصوبةٌ نعتاً ل " أَزْواجاً " أي : أزواجاً متفرقةً بمعنى : مختلفة الألوانِ والطُّعوم . والثاني : أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ " أزواجاً " وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي " مِنْ نبات " . الثالث : أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضاً مِنْ فاعل الجارِّ ؛ لأنه لَمَّا وقع وصفاً رفع ضميراً فاعِلاً . الرابع : أنَّه في محلِّ جر نعتاً ل " نبات " ، قال الزمخشري : " يجوز أن يكونَ صفةً لنبات ، ونبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت ، فاستوى فيه الواحدُ والجمع ، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ ، بعضُها يَصْلُح للناس ، وبعضُها للبهائم " ووافقه أبو البقاء أيضاً . ولكنَ الظاهرَ الأولُ .