فقال سليمان : وما ذاك ؟ قال : { إني وجدت امرأة تملكهم } وكان اسمها بلقيس بنت شراحيل ، من نسل يعرب بن قحطان ، وكان أبوها ملكاً عظيم الشأن ، قد ولد له أربعون ملكاً وهو آخرهم ، وكان يملك أرض اليمن كلها ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفؤاً لي ، وأبى أن يتزوج فيهم ، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها ، وجاء في الحديث : إن أحد أبوي بلقيس كان جنياً . فلما مات أبو بلقيس طمعت في الملك فطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون ، فملكوا عليهم رجلاً ، وافترقوا فرقتين ، كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن ، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته ويفجر بهن ، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه ، فلما رأت ذلك بلقيس أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها الملك ، وقال : ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك ، فقالت لا أرغب عنك ، لأنك كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم ، فجمعهم وخطبها إليهم ، فقالوا : لا نراها تفعل هذا ، فقال لهم : إنها ابتدأتني فأنا أحب أن تسمعوا قولها فجاؤوها ، فذكروا لها ، فقالت : نعم أحببت الولد . فزوجوها منه ، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثير من حشمها ، فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر ، ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوب على باب دارها ، فعلموا أن تلك المناكحة كانت مكراً وخديعة منها ، فاجتمعوا إليها وقالوا : أنت بهذا الملك أحق من غيرك ، فملكوها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عثمان بن الهيثم ، أنبأنا عوف ، عن الحسن ، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال : " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " . قوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدة ، { ولها عرش عظيم } سرير ضخم كان مضروباً من الذهب مكللاً بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وقوائمه من الياقوت والزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق . قال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً ، وطوله في السماء ثلاثون ذراعاً . وقال مقاتل : كان طوله ثمانين ذراعاً وطوله في السماء ثمانين ذراعاً . وقيل : كان طوله ثمانين ذراعاً وعرضه أربعين ذراعاً وارتفاعه ثلاثين ذراعاً .
ثم فسر هذا النبأ فقال : { إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } أي : تملك قبيلة سبأ وهي امرأة { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } يؤتاه الملوك من الأموال والسلاح والجنود والحصون والقلاع ونحو ذلك . { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } أي : كرسي ملكها الذي تجلس عليه عرش هائل ، وعظم العروش تدل على عظمة المملكة وقوة السلطان وكثرة رجال الشورى .
وجملة : { إنى وجدت امرأة } بيان ل { نبأ } فلذلك لم تعطف . وإدخال ( إنّ ) في صدر هذه الجملة لأهمية الخبر إذ لم يكن معهوداً في بني إسرائيل أن تكون المرأة ملكاً .
وفعل { تملكهم } هنا مشتق من المُلك بضم الميم وفعله كفعل مِلك الأشياء . وروي حديث هرقل « هل كان في آبائه مِن مَلَك » بفتح اللام ، أي كان مَلكاً ، ويفرق بين الفعلين بالمصدر فمصدر هذا مُلك بضم الميم ، والآخر بكسرها ، وضمير الجمع راجع إلى سبأ .
وهذه المرأة أريد بها بلقيس ( بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القافِ ) ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سَبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين . والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عَشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة . ويقال : هي التي بَنت سُدّ مَأرب . وكانت حاضرةُ ملكها مأربَ مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل وسيأتي ذكرها في سورة سبأ .
وتنكير { امرأة } وهو مفعول أول ل { وجدت } له حكم المبتدأ فهو كالابتداء بالنكرة إذا أريد بالنكرة التعجب من جنسها كقولهم : بقَرة تكلمتْ ، لأن المراد حكاية أمر عجيب عندهم أن تكون امرأة ملكة على قوم . ولذلك لم يقل : وجدتهم تملكهم امرأة .
والإيتاء : الإعطاء ، وهو مشعر بأن المعطَى مرغوب فيه ، وهو مستعمل في لازمه وهو النول .
ومعنى { أوتيت من كل شيء } نالت من كل شيء حسن من شؤون الملك . فعموم كل شيء عموم عرفي من جهتين يفسره المقام كما فسر قول سليمان { أوتينا من كل شيء } [ النمل : 16 ] ، أي أوتيتْ من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن .
وبناء فِعل { أوتيت } إلى المجهول إذ لا يتعلق الغرض بتعيين أسباب ما نالته بل المقصود ما نالته على أن الوسائل والأسباب شتى ، فمنه ما كان إرثاً من الملوك الذين سلفوها ، ومنه ما كان كسباً من كسبها واقتنائها ، ومنه ما وهبها الله من عقل وحكمة ، وما منَح بلادها من خصب ووفرة مياه . وقد كان اليونان يلقبون مملكة اليمن بالعربية السعيدة أخذاً من معنى اليُمْن في العربية ، وقال تعالى : { لقد كان لسبإٍ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكُروا له بلدَةٌ طيبة وربٌ غفور } [ سبأ : 15 ] . وأما رجاحة العقول ففي الحديث : « أتاكم أهل اليمن هُم أرق أفئدة ، الإيمان يَماننٍ ، والحكمةُ يمانية » فليس المراد خصوص ما آتاها الله في أصل خلقتها وخلقة أمتها وبلادها ، ولذا فلم يتعين الفاعل عرفاً . وكلّ من عند الله .
وخص من نفائس الأشياء عرشها إذ كان عرشاً بديعاً ولم يكن لسليمان عرش مثله . وقد جاء في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول ما يقتضي أن سليمان صنع كرسيَّهُ البديع بعد أن زارته ملكة سبأ . وسنشير إليه عند قوله تعالى : { أيُّكم يأتيني بعرشها } [ النمل : 38 ] .
والعظيم : مستعمل في عظمة القَدْر والنفاسة في ضخامة الهيكل والذات . وأعقب التنويه بشأنها بالحط من حال اعتقادهم إذ هم يسجدون ، أي يعبدون الشمس . ولأجل الاهتمام بهذا الخبر أعيد فعل وَجَدْتُها إنكاراً لكونهم يسجدون للشمس ، فذلك من انحطاط العقلية الاعتقادية فكان انحطاطهم في الجانب الغيبي من التفكير وهو ما يظهر فيه تفاوت عوض العقول على الحقائق لأنه جانب متمحّض لعمل الفكر لا يستعان فيه بالأدلة المحسوسة ، فلا جرم أن تضل فيه عقول كثير من أهل العقول الصحيحة في الشؤون الخاضعة للحواس . قال تعالى في المشركين { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ الروم : 7 ، 8 ] وكان عرب اليمن أيامئذ من عَبدة الشمس ثم دخلت فيهم الديانة اليهودية في زمن تُبّع أسْعَد من ملوك حِمير ، ولكونهم عبدة شمس كانوا يسمون عبد شمس كما تقدم في اسم سبأ .
وقد جمع هذا القولُ الذي ألقي إلى سليمان أصولَ الجغرافية السياسية من صفة المكان والأديان ، وصبغة الدولة وثروتها ، ووقع الاهتمام بأخبار مملكة سبأ لأن ذلك أهم لملك سليمان إذ كانت مجاورة لمملكته يفصل بينهما البحر الأحمر ، فأمور هذه المملكة أجدى بعمله .
وقرأ الجمهور : { من سبأ } بالصرف . وقرأه أبو عمرو والبَزي عن ابن كثير بفتحة غير مصروف على تأويل البلاد أو القبيلة . وقرأه قنبل عن ابن كثير بسكون الهمزة على اعتبار الوقف إجراء للوصل مُجرى الوقف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إني وجدت امرأة تملكهم} يعني: تملك أهل سبأ {وأوتيت} يعني: وأعطيت {من كل شيء} يكون باليمن، يعني: العلم والمال والجنود والسلطان والزينة وأنواع الخير، فهذا كله من كلام الهدهد، وقال الهدهد: {ولها عرش عظيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه:"إنّي وَجَدْتُ امْرأةً تَمْلِكُهُمْ" يعني تملك سبأ... فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضمّ مملكة لغيره إلى ملكه، حقّت للهدهد المعذرة، وصحّت له الحجة في مغيبه عن سليمان.
وقوله: "وأُوتِيَتْ مِنْ كُلّ شَيْءٍ "يقول: وأوتيت من كلّ شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة...
وقوله: "ولَهَا عَرْشٌ عَظيمٌ" يقول: ولها كرسي عظيم. وعُني بالعظيم في هذا الموضع: العظيم في قدره، وعظم خطره، لا عظمه في الكبر والسعة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء} يؤتى الملوك على ما ذكرنا في قوله {وأوتينا من كل شيء} [النمل: 16] ثم العجب من أمر بلقيس أن كيف خفي خبرها وأمرها على سليمان كل ذلك الخفاء، وكانت بقرب منه؟ وكانت ملكة جبارة ذات سلطان وملك. وكان يذهب في كل غدو مسيرة شهر وفي كل رواح كذلك. كيف لم يطلع على أمرها وخبرها؟ وكانت الجن والشياطين مسخرين له ومذللين يعملون له الأعمال الصعبة الشديدة، ويطوفون في الآفاق والأفق. وكان هو بعث إلى الدعاء إلى توحيد الله. كيف خفي عليه أمرها وخبرها كل هذا الخفاء حتى أخبره بذلك الهدهد؟ هذا، والله، أمر عجب! ومن عادة الملوك أيضا أنهم يطلع بعضهم على أمور بعض، ويعلم بأحواله. لكن يحتمل خفاء خبرها لما لا يتجاسر كل أحد أن يكلمه في ذلك وأن يعلمه عن حالها، وإن كان لا يعلم هو ذلك إلا بعد السؤال وطلب الخبر تعظيما له وإجلالا. وهكذا الملوك ليس يتجاسر كل أحد على أن يخبرهم عن كل أمر وخبر إلا بعد السؤال إياه تعظيما لهم وتوقيرا. فعلى ذلك أمر سليمان مع بلقيس، أو أن يكون لأمر وسبب لم يبلغنا ذلك، ولم نشعر به.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إني وجدت امرأة تملكهم "وتتصرف فيهم بحيث لا يعترض عليها أحد ومع ذلك "أوتيت من كل شيء "أي أعطيت كل شيء، لفظه لفظ العموم والمراد به المبالغة في كثرة ما أوتيت من نعم الدنيا وسعة الملك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والضمير في {تَمْلِكُهُمْ} راجع إلى سبإ، فإن أريد به القوم بالأمر ظاهر، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها. فإن قلت: كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت: يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم...فإن قلت: كيف قال: {وَأُوتِيتْ مِن كُلِّ شَيءٍ} مع قول سليمان {وَأُوتِينا مِن كُلّ شَيء} [النمل: 16] كأنه سوّي بينهما؟ قلت: بينهما فرق بيّن؛ لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله، وهو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلاً إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
(وجدت): أصبت (المرأة): هي بلقيس بإجماع المفسرين والمؤرخين. (تملكهم): تتولى أمرهم ملكة عليهم، وعبر بالمضارع تصويرا للحال العجيب وهو أن تتولى ملكهم امرأة. وعاد الضمير على سبأ جمع مذكر على معنى القوم، إذ كانوا يسمون باسم أبيهم، فذكر لفظ سبأ أولا بمعنى المدينة وأعيد عليه الضمير بمعنى القوم على أسلوب الاستخدام. (من كل شيء): لفظ عام أريد به كل ما تحتاج إليه، من أشياء الملك والسلطان والقوة والعمران...المعنى: يقول الهدهد لسليمان – عليه الصلاة والسلام – مبينا الخبر العظيم الذي جاء به: إني وجدت أولئك القوم الذين يسكنون تلك المدينة، قد جعلوا امرأة ملكة عليهم، وقد أعطيت تلك الملكة كل ما تحتاج إليه في نظام ملكها وعظمته، ومن مظاهر تلك العظمة السرير العظيم الذي تجلس عليه بين أهل مملكتها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه المرأة أريد بها بلقيس -بكسر الموحدة وسكون اللام وكسر القافِ- ابنة شراحيل وفي ترتيبها مع ملوك سَبأ وتعيين اسمها واسم أبيها اضطراب للمؤرخين. والموثوق به أنها كانت معاصرة سليمان في أوائل القرن السابع عَشر قبل الهجرة وكانت امرأة عاقلة. ويقال: هي التي بَنت سُدّ مَأرب. وكانت حاضرةُ ملكها مأربَ مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث مراحل وسيأتي ذكرها في سورة سبأ...ومعنى {أوتيت من كل شيء} نالت من كل شيء حسن من شؤون الملك... أي أوتيتْ من خصال الملوك ومن ذخائرهم وعددهم وجيوشهم وثراء مملكتهم وزخرفها ونحو ذلك من المحامد والمحاسن. وبناء فِعل {أوتيت} إلى المجهول إذ لا يتعلق الغرض بتعيين أسباب ما نالته بل المقصود ما نالته على أن الوسائل والأسباب شتى، فمنه ما كان إرثاً من الملوك الذين سلفوها، ومنه ما كان كسباً من كسبها واقتنائها، ومنه ما وهبها الله من عقل وحكمة، وما منَح بلادها من خصب ووفرة مياه... ولذا فلم يتعين الفاعل عرفاً. وكلّ من عند الله.