مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ} (23)

أما قوله : { إني وجدت امرأة تملكهم } فالمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس ، والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ ، فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر ، وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها .

وأما قوله : { وأوتيت من كل شيء } ففيه سؤال وهو أنه كيف قال : { وأوتيت من كل شيء } مع قول سليمان { وأوتينا من كل شيء } فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه : أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا .

وأما قوله : { ولها عرش عظيم } ففيه سؤال ، وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان ؟ وأيضا فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم ؟ والجواب عن الأول : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ، ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان ، وعن الثاني : أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض ، واعلم أن ههنا بحثين :

البحث الأول : أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه . أحدها : أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة ، فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا ، أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس ، وبالنحو من سيبويه ، وكذا القول في القملة والصئبان ، ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ، ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب . وثانيها : أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه ؟ وثالثها : كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان ، وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ، ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام . ورابعها : من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ والجواب عن الأول : أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل ، وإنما يدفع ذلك بالإجماع ، وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك .