البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنِّي وَجَدتُّ ٱمۡرَأَةٗ تَمۡلِكُهُمۡ وَأُوتِيَتۡ مِن كُلِّ شَيۡءٖ وَلَهَا عَرۡشٌ عَظِيمٞ} (23)

ولما أبهم الهدهد أولاً ، ثم أبهم ثانياً دون الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال : { إني وجدت امرأة تملكهم } .

ولا يدل قوله : { تملكهم } على جواز أن تكون المرأة ملكة ، لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في ذلك .

وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : « لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح عنه .

ونقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة .

ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن كان أريد القبيلة ، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ .

والمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولد له أربعون ملكاً ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس .

واختلف في اسم أبيها اختلافاً كثيراً .

قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن ، تزوجها أبوها ، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحداً من ملوك زمانه ، فولدت له بلقيس ، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح .

وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها ، وأنها { أوتيت من كل شيء } ، وهذا على سبيل المبالغة ، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه ، أو من كل شيء في أرضها .

وبين قول الهدهد ذلك ، وبين قول سليمان : { وأوتينا من كل شيء } فرق ، وذلك أن سليمان عطف على قوله : { علمنا منطق الطير } ، وهو معجزة ، فيرجع أولاً إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على الملك ، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها .

{ ولها عرش عظيم } ، قال ابن زيد : هو مجلسها .

وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان مرصعاً بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب .

وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم بحقيقة ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش ، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته .

ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك .

ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان معرضاً عن أمور الدنيا .

فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولاً باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان ، تحصناً من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع إلى علم ذلك .

ثم أخبرنا ثانياً يتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ .

ثم أخبر ثالثاً عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان سليمان عليه السلام قد سأل الله أن يؤتيه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده .

ثم أخبر رابعاً ما ظاهره الإشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : { وأوتيت من كل شيء } ، وقوله : { ولها عرش عظيم } ، وكان سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيماً .