فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله عز وجل وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمروا به من أداء نفقات المسلمين على نسائهم ، فأنزل الله عز وجل :{ وإن فاتكم } أيها المؤمنون { شيء من أزواجكم إلى الكفار } فلحقن بهم مرتدات ، { فعاقبتم } قال المفسرون : معناه غنمتم ، أي : غزوتم فأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة ، وقيل ظهرتم ، وكانت العاقبة لكم . وقيل : أصبتموهم ، في القتال بعقوبة حتى غنمتم . قرأ حميد الأعرج " فعقّبتم " بالتشديد . وقرأ الزهري " فعقبتم " خفيفة بغير ألف . وقرأ مجاهد : عاقبتم أي صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، وكلها لغات بمعنى واحد ، يقال : عاقب وعقب وعقب ، وأعقب وتعقب وتعاقب واعتقب : إذا غنم . وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة ، { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار منكم ، { مثل ما أنفقوا } عليهن من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار . وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين والمهاجرين ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة ، كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بن عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام ، كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأم كلثوم بنت جرول ، كانت تحت عمر بن الخطاب ، فكلهن رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة . { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } واختلف القول في أن رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن ، كان واجباً أو مندوباً ؟ . وأصله أن الصلح هل كان وقع على رد النساء ؟ فيه قولان : أحدهما أنه وقع على رد النساء والرجال جميعاً ، لما روينا : أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فعلى هذه كان رد المهر واجباً . والقول الآخر : أن الصلح لم يقع على رد النساء ، لأنه روي عن علي : أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها ، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت ، وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة عقلها ، وقلة هدايتها إلى المخرج منها بإظهار كلمة الكفر مع التورية ، وإضمار الإيمان ، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية ، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً . واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار ؟ . فقال قوم : لا يجب ، وزعموا أن الآية منسوخة ، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة ، وقال قوم : هي غير منسوخة ويرد إليهم ما أنفقوا .
وقوله : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } بأن ذهبن مرتدات ، { فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } كما تقدم أن الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين ، فمن ذهبت زوجته من المسلمين إلى الكفار وفاتت عليه ، لزم أن يعطيه فعلى المسلمون من الغنيمة بدل ما أنفق{[1062]} .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فإيمانكم بالله ، يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدوام .
عطف على جملة { واسألوا ما أنفقتم } [ الممتحنة : 10 ] فإنها لما ترتب على نزولها إِباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاءِ بقين على الكفر بمكة واللاء فَرَرْنَ من المدينة والتحَقْنَ بأهل الكفر بمكة مهورَهم التي كانوا أَعطوها نساءهم ، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم .
روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادِّ بين الفريقين في قوله تعال : { واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] .
فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } الآية .
وأصل الفوت : المفارقة والمباعدة ، والتفاوت : المتباعد . والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رُويشد بن كثير الطائي أو عَمرو بن معد يكرب :
إن تُذنبوا ثم تأتِيني بقيتكم *** فمَا عَليَّ بذنب منكمُ فَوْت
أي فلا ضياع عليّ بما أذنبتم ، أي فإنا كمن لم يضعْ له حق .
والمعنى : إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقَّبتم على أزواج الكفار وعقَّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم ، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته ، أي ما هو حقه ، واحجزوا ذلك عن الكفار . وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور مَن فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار . هذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية .
وعن ابن عباس والجمهور : الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين . وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة [ [ براءة : 7 ] { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } .
والوجه أن لا يُصار إلى الإِعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاءِ أتيْنَ إلى بلاد الإِسلام وصرن أزواجاً للمسلمين .
والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم } .
ولفظ { شيء } هنا مراد به : بعض { من أزواجكم } بيان ل { شيء } ، وأريد ب { شيء } تحقير الزوجات اللاءِ أبَيْن الإِسلام ، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها .
وضمّن فعل { فاتكم } معنى الفرار فعدّي بحرف { إلى } أي فررن إلى الكفار .
و« عاقبتم » صيغة تفاعل من العُقْبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة ، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيرُه . وأصلها في ركوب الرواحل والدوابّ أن يركب أحد عُقْبَة وآخر عَقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهورَ نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه .
ففعل { ذهبت } مجاز مثل فعل { فاتكم } في معنى عدم القدرة عليهن .
والخطاب في قوله : { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } وفي قوله : { فآتوا } خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضاً من المؤمنين .
والمعنى : فليعْط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم .
والذي يتولى الإِعطاء هنا هو كما قررنا في قوله : { آتوهم ما أنفقوا } [ الممتحنة : 10 ] أي يُدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة : أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ، وعياض بن أبي شداد الفهري ، وشماس بن عثمان ، وهشام بن العاص ، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم .
وأفاد لفظ { مثل } أن يكون المهرُ المعطى مساوِياً لما كان أعطاه زوج المرأة من قبلُ لا نقص فيه .
وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمْن وهن ثمان نساء : أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد ، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال : قُريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عُمر بن الخطاب ، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عُمَر ، وبَروع ( بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها ) بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشَهبة بنت غيلان وعبدةُ بنتُ عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص ، وقيل تحت عَمرو بن عبد وهندٌ بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله ، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله .
وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قُريبَة وأمَّ جرول ، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين ، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر . وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] .
والتذييل بقوله : { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة ، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإِخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإِيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإِنصاف ، أي فلا تكونوا مثلهم .