قوله عز وجل{ وكأين من قرية عتت } عصت وطغت ، { عن أمر ربها ورسله } أي : وأمر رسله ، { فحاسبناها حساباً شديدا } بالمناقشة والاستقصاء ، قال مقاتل : حاسبها بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب ، وهو قوله : { وعذبناها عذاباً نكراً } منكراً فظيعاً ، وهو عذاب النار . لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، مجازها : فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً .
{ 8-11 } { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا }
يخبر تعالى عن إهلاكه الأمم العاتية ، والقرون المكذبة للرسل أن كثرتهم وقوتهم ، لم تنفعهم{[1154]} شيئًا ، حين جاءهم الحساب الشديد ، والعذاب الأليم .
{ كأين } : هي كاف الجر دخلت على أي ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرا ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو : «وكائن » ممدود مهموز ، كما قال الشاعر :
وكائن بالأباطح من صديق***{[11172]}
وقرأ بعض القراء : { وكأين } بتسهيل الهمزة ، وفي هذين الوجهين قلب لأن الياء قبل الألفات ، وقوله تعالى : { فحاسبناها } قال بعض المتأولين : الآية في الآخرة ، أي ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة . وقال آخرون : ذلك في الدنيا ، ومعنى : { فحاسبناها حساباً شديداً } أي لم نغتفر لها زلة بل أخذت بالدقائق من الذنوب ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكران : «نكُراً » بضم الكاف ، وقرأ الباقون : «نكْراً » بسكون الكاف وهي قراءة عيسى .
لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولَواحِقه ، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } [ الطلاق : 2 ] وقوله : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } [ الطلاق : 4 ] ، وقوله : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } [ الطلاق : 5 ] وقوله : { سيجعل الله بعد عسر يسراً } [ الطلاق : 7 ] .
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، وقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } [ الطلاق : 2 ] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم ، لأن الصغير يُثير الجليل ، فذكَّر المسلمين ( وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم ) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة ، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال .
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } الآيات . فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض .
و { كأيّن } اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و { كأيّن } بمعنى ( كَم ) الخبرية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير } في [ آل عمران : 146 ] .
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم .
وكأيّن } في موضع رفع على الابتداء ، وهو مبني .
وجملة { عتت عن أمر ربها } في موضع الخبر ل { كأيّن } .
والمعنى : الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله : { فحاسبناها } فالمفرع هو المقصود من الخبر .
والمراد بالقرية : أهلها على حد قوله : { واسأل القرية التي كنا فيها } [ يوسف : 82 ] بقرينة قوله عَقب ذلك { أعد الله لهم عذاباً شديداً } إذ جيء بضمير جمع العقلاء .
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] .
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم .
والعتوّ ويقال العُتِيّ : تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد .
وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف { عن } .
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب ، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين ، وهو الحساب في الدنيا ، ولذلك جاء { فحاسبناها } و { عذبناها } بصيغة الماضي .
والمعنى : فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافىء طغيانها .
والعذاب النُكُر : هو عذاب الاستئصال بالغرق ، والخسف ، والرجم ، ونحو ذلك .
وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره ، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به .
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة . وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها .
والعذاب : عذاب جهنم ، ويكون الفعل الماضي مستعملاً في معنى المستقبل تشبيهاً للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، وقوله : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] .
والنُكُر بضمتين ، وبضم فَسكون : ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ { نكُراً } بضمتين . وقرأه الباقون بسكون الكاف . وتقدم في سورة الكهف .