{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } أي : فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين ، كان بقضاء الله وقدره ، وله الحكمة في ذلك . [ وقوله ]{[6106]} { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا .
الخطاب بقوله تعالى : { وما أصابكم } للمؤمنين ، و { الجمعان } هما عسكر النبي صلى الله عليه وسلم وعسكر قريش يوم -أحد- ودخلت الفاء في قوله : { فبإذن الله } رابطة مشددة ، وذلك للإبهام الذي في { ما } فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سبيويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء ، وكل ترتيب هذه الآية ، فالمعنى إنما هو ، وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب ، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم ، والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به{[3695]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أصابكم} من القتل والهزيمة بأحد {يوم التقى الجمعان} جمع المؤمنين وجمع المشركين، {فبإذن الله} أصابكم ذلك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: والذي أصابكم يوم التقى الجمعان، وهو يوم أُحد حين التقى جمع المسلمين والمشركين. ويعني بالذي أصابهم: ما نال من القتل من قُتِل منهم، ومن الجراح من جُرح منهم {فبإذْنِ اللّه} يقول: فهو بإذن الله كان، يعني: بقضائه وقدره فيكم... {وَلِيَعْلَمَ المُؤمِنِينَ وليعلمَ الّذَينَ نافَقُوا} بمعنى: وليعلم الله المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا، أصابكم ما أصابكم يوم التقى الجمعان بأُحد، ليميز أهل الإيمان بالله ورسوله المؤمنين منكم من المنافقين فيعرفونهم، لا يخفى عليهم أمر الفريقين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هوَّن على المؤمنين وأصحاب البصائر ما لقوا من عظيم الفتنة يوم أُحُد، بأن قال إن ذلك أجمع كان بإذن الله، وإنَّ بلاءً يصيب بإذن الله لِمَن العسلِ أحلى، ومِنْ كل نعيم أشهى. ثم أخبر أن الذين لم يكن لهم في الصحبة خلوص كيف تعللوا وكيف تكاسلوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالمعنى إنما هو: وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكن قدم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم، والإذن: التمكين من الشيء مع العلم به.
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله: {أو لما أصابتكم مصيبة} فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {يوم التقى الجمعان} المراد يوم أحد، والجمعان: أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان.
المسألة الثانية: في قوله: {فبإذن الله} وجوه:
الأول: أن إذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة، استعار الإذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، لأن الإذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز.
الوجه الثاني: فبإذن الله: أي بعلمه كقوله: {وأذان من الله} أي إعلام، وكقوله: {آذناك ما منا من شهيد} وقوله: {فأذنوا بحرب من الله} وكل ذلك بمعنى العلم. طعن الواحدي فيه فقال: الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه}.
الوجه الثالث: أن المراد من الإذن الأمر، بدليل قوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره.
الوجه الرابع: وهو المنقول عن ابن عباس: أن المراد من الإذن قضاء الله بذلك وحكمه به، وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى الله.
ثم قال: {وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: يقال: نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه:
الأول: قال أبو عبيدة: هو من نافقاء اليربوع، وذلك لأن جحر اليربوع له بابان: القاصعاء والنافقاء، فإذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق، لأنه وضع لنفسه طريقين، إظهار الإسلام وإضمار الكفر، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر.
الثاني: قال ابن الأنباري: المنافق من النفق وهو السرب، ومعناه أنه يتستر بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب.
الثالث: أنه مأخوذ من النافقاء، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض، ثم إنه يرقق بما فوق الجحر، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام.
المسألة الثانية: قوله: {وليعلم المؤمنين} ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة، وهذا يشعر بتجدد علم الله، وهذا محال في حق علم الله تعالى، فالمراد ههنا من العلم المعلوم، والتقدير: ليتبين المؤمن من المنافق، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الإذن في تلك المصيبة، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم.
المسألة الثالثة: في الآية حذف، تقديره: وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين. فإن قيل: لم قال: {وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} ولم يقل: وليعلم المنافقين. قلنا: الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى، والفعل يدل على تجدده، وقوله: {وليعلم المؤمنين} يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه، وأما {نافقوا} فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك. [وقوله] 1421 {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام: أي لا عجزا في القدرة ولا قهرا للإرادة. وهذا صريح في أن قدرته لا يمنعها وجود الرسول فيهم. أقول: أي وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعكم بجمع المشركين في أحد فهو بإذن الله أي إرادته الأزلية وقضائه السابق بأن تكون السنن العامة في الأسباب والمسببات مطردة فكل عسكر يخطئ الرأي ويعصي القائد ويخلي بين العدو وبين ظهره، يصاب بمثل ما أصبتم أو بما هو أشد منه. هذا هو معنى ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير الإذن هنا بقضاء الله وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين كما قيل وعبرة وعلم عال يجلي لهم قوله السابق في هذا السياق (قد خلت من قبلكم سنن) وذهب بعض المفسرين إلى أن الإذن هنا عبارة عن التخلية وعدم المعارضة والمنع على سبيل المجاز أي أنه تعالى لم يمنع المشركين من الإيقاع بالمؤمنين بعناية خاصة منه لأنهم لم يستحقوا تلك العناية منه سبحانه وقد فشلوا في الأمر وعصوا الرسول فقد وقع ذلك لأنه تعالى أذن به وأراده (وليعلم المؤمنين) أي حالهم من قوة الإيمان وضعفه والاستفادة من المصائب حتى لا يعودوا إلى أسبابها والعلم بسنن الله عندما يظهر فيهم حكما في الشدة والبأس أي ليظهر علمه بذلك ويترتب عليه مقتضاه. وقد تقدم الكلام على التعليل بالعلم فارجع إلى تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين آمنوا) من هذا السياق فما هو ببعيد فالتعليل الأول المأخوذ من قوله: (فبإذن الله) لبيان السبب والتعليل الثاني لبيان الحكمة والفائدة في ذلك وعطف عليه قوله عز وجل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع هذا فقد كان قدر الله من وراء الأمر كله لحكمة يراها. وقدر الله دائما من وراء كل أمر يحدث، ومن وراء كل حركة وكل نأمة، وكل انبثاقة في هذا الكون كله: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله...).. لم يقع مصادفة ولا جزافا، ولم يقع عبثا ولا سدى. فكل حركة محسوب حسابها في تصميم هذا الكون؛ ومقدر لها علتها ونتائجها؛ وهي في مجموعها -ومع جريانها وفق السنن والقوانين الثابتة التي لا تنخرق ولا تتعطل ولا تحابي- تحقق الحكمة الكامنة وراءها؛ وتكمل "التصميم "النهائي للكون في مجموعة! إن التصور الإسلامي يبلغ من الشمول والتوازن في هذه القضية، ما لا يبلغه أي تصور آخر في تاريخ البشرية.. هنالك ناموس ثابت وسنن حتمية.. وهناك وراء الناموس الثابت والسنن الحتمية إرادة فاعلة ومشيئة طليقة. وهناك وراء الناموس والسنن والإرادة والمشيئة حكمة مدبرة يجري كل شيء في نطاقها.. والناموس يتحكم والسنن تجري في كل شيء -ومن بينها الإنسان- والإنسان يتعرض لهذه السنن بحركاته الإرادية المختارة، وبفعله الذي ينشئه حسب تفكيره وتدبيره، فتنطبق عليه، وتؤثر فيه.. ولكن هذا كله يقع موافقا لقدر الله ومشيئته؛ ويحقق في الوقت ذاته حكمته وتقديره.. وإرادة الإنسان وتفكيره وحركته وفاعليته هي جزء من سنن الله وناموسه يفعل بها ما يفعل، ويحقق بها ما يحقق في نطاق قدره وتدبيره. فليس شيء منها خارجا على السنن والناموس. ولا مقابلا لها ومناهضا لفعلها، كما يتصور الذين يضعون إرادة الله وقدره في كفة، ويضعون إرادة الإنسان وفاعليته في الكفة المقابلة.. كلا. ليس الأمر هكذا في التصور الإسلامي.. فالإنسان ليس ندا لله، ولا عدوا له كذلك. والله -سبحانه- حين وهب الإنسان كينونته وفكره وإرادته وتقديره وتدبيره وفاعليته في الأرض، لم يجعل شيئا من هذا كله متعارضا مع سنته -سبحانه- لا مناهضا لمشيئته، ولا خارجا كذلك عن الحكمة الأخيرة وراء قدره في هذا الكون الكبير.. ولكن جعل من سنته وقدره أن يقدر الإنسان ويدبر؛ وأن يتحرك ويؤثر؛ وأن يتعرض لسنة الله فتنطبق عليه؛ وأن يلقى جزاء هذا التعرض كاملا من لذة وألم، وراحة وتعب، وسعادة وشقاوة.. وأن يتحقق من وراء هذا التعرض ونتيجته، قدر الله المحيط بكل شيء، في تناسق وتوازن..
وهذا الذي وقع في غزوة أحد، مثل لهذا الذي نقوله عن التصور الإسلامي الشامل الكامل. فقد عرف الله المسلمين سنته وشرطه في النصر والهزيمة. فخالفوا هم عن سنته وشرطه، فتعرضوا للألم والقرح الذي تعرضوا له.. ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد كان وراء المخالفة والألم تحقيق قدر الله في تمييز المؤمنين من المنافقين في الصف، وتمحيص قلوب المؤمنين وتجلية ما فيها من غبش في التصور، ومن ضعف أو قصور.. وهذا بدوره خير ينتهي إليه أمر المسلمين -من واء الألم والضر- وقد نالوه وفق سنة الله كذلك. فمن سنته أن المسلمين الذين يسلمون بمنهج الله ويستسلمون له في عمومه، يعينهم الله ويرعاهم، ويجعل من أخطائهم وسيلة لخيرهم النهائي -ولو ذاقوا مغبتها من الألم- لأن هذا الألم وسيلة من وسائل التمحيص والتربية والإعداد. وعلى هذا الموقف الصلب المكشوف تستريح أقدام المسلمين وتطمئن قلوبهم، بلا أرجحة ولا قلق ولا حيرة، وهم يواجهون قدر الله، ويتعاملون مع سنته في الحياة؛ وهم يحسون أن الله يصنع بهم في أنفسهم وفيمن حولهم ما يريده، وأنهم أداة من أدوات القدر يفعل بها الله ما يشاء، وأن خطأهم وصوابهم -وكل ما يلقونه من نتائج لخطئهم وصوابهم- متساوق مع قدر الله وحكمته، وصائر بهم إلى الخير ما داموا في الطريق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجّه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين، وعدم تدارك ذلك باللطف. ووجه الشبه أنّ الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبِه ومراده، ذلك أنّ الله تعالى رتّب الأسباب والمسبّبات في هذا العالم على نظام، فإذا جاءت المسبّبات من قِبَل أسبابها فلا عجب، والمسلمون أقلّ من المشركين عدداً وعُدداً فانتصار المسلمين يومَ بدر كرامة لهم، وانهزامهم يوم أُحُد عادة وليس بإهانة. فهذا المراد بالإذن...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي إن ما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد -وكلاهما قد أصر على أن يكون الموقف حاسما لمصلحته- قد كان بإذن الله تعالى، أي بإرادته الأزلية، وتقديره الحكيم،وقضائه المحكم، فما كان بغير إرادته: بل كان على مقتضى حكمته، ذلك أن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها والمقدمات بنتائجها، فمن سلك طريق النصر ينتصر إن خلصت نيته، واستقامت إرادته، وتوكل على الله تعالى، ولا يبغي إلا وجهه سبحانه، وإن طريق النصر أوله انصراف عن المادة لأنها تضعف العزيمة، ثم تنظيم محكم ووضع لكل شخص في موضعه الذي يحكم القيام به، ثم طاعة وإصرار وعزيمة على امتثال الخطة المثلى، ثم ثبات جنان وتصرف في الشديدة، ولم تكونوا كذلك في هذه المعركة الطاحنة التي اختبرتم فيها اختبارا شديدا، وهو سبيل النصر إن انتفعتم به، فقد شابت نفوس بعضكم المادة وهمت طائفتان أن تفشلا فلم تكن النية المحتسبة. وخالفتم القائد الرشيد، وأفسدتم النظام المحكم، وذهب الهلع بنفوس أكثركم إذ اشتدت الشديدة وقوي البلاء...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لابد أن تتميز الصفوف: تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أن أية مصيبة كتلك التي وقعت في أُحد مضافاً إلى أنها لم تكن دون سبب وعلة، فإنها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان.