مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَآ أَصَٰبَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (166)

قوله تعالى : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ، وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون } .

اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله : { أو لما أصابتكم مصيبة } فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم ، وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر ، وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { يوم التقى الجمعان } المراد يوم أحد ، والجمعان : أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني : جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان .

المسألة الثانية : في قوله : { فبإذن الله } وجوه : الأول : أن إذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة ، استعار الإذن لتخلية الكفار فإنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، لأن الإذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده ، فلما كان ترك المدافعة من لوازم الإذن أطلق لفظ الإذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز .

الوجه الثاني : فبإذن الله : أي بعلمه كقوله : { وأذان من الله } أي إعلام ، وكقوله : { آذناك ما منا من شهيد } وقوله : { فأذنوا بحرب من الله } وكل ذلك بمعنى العلم . طعن الواحدي فيه فقال : الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه ، لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى : { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } .

الوجه الثالث : أن المراد من الإذن الأمر ، بدليل قوله : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة ، ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام ، صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره .

الوجه الرابع : وهو المنقول عن ابن عباس : أن المراد من الإذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ، والتسلية إنما تحصل إذا قيل إن ذلك وقع بقضاء الله وقدره ، فحينئذ يرضون بما قضى الله .

ثم قال : { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي : يقال : نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الإيمان وأضمر خلافها ، والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه : الأول : قال أبو عبيدة : هو من نافقاء اليربوع ، وذلك لأن جحر اليربوع له بابان : القاصعاء والنافقاء ، فإذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه منافق ، لأنه وضع لنفسه طريقين ، إظهار الإسلام وإضمار الكفر ، فمن أيهما طلبته خرج من الآخر : الثاني : قال ابن الأنباري : المنافق من النفق وهو السرب ، ومعناه أنه يتستر بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب . الثالث : أنه مأخوذ من النافقاء ، لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة ، وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ، ثم إنه يرقق بما فوق الجحر ، حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه ، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام .

المسألة الثانية : قوله : { وليعلم المؤمنين } ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة ، وهذا يشعر بتجدد علم الله ، وهذا محال في حق علم الله تعالى ، فالمراد ههنا من العلم المعلوم ، والتقدير : ليتبين المؤمن من المنافق ، وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الإذن في تلك المصيبة ، وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم .

المسألة الثالثة : في الآية حذف ، تقديره : وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين .

فإن قيل : لم قال : { وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا } ولم يقل : وليعلم المنافقين .

قلنا : الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى ، والفعل يدل على تجدده ، وقوله : { وليعلم المؤمنين } يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه ، وأما { نافقوا } فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت .

ثم قال تعالى : { وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في أن هذا القائل من هو ؟ وجهان : الأول : قال الأصم : أنه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال . الثاني : روي أن عبد الله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا : لم نلق أنفسنا في القتل ، فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبد الله الأنصاري : أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو ، فهذا هو المراد من قوله تعالى : { وقيل لهم } يعني قول عبد الله هذا .

المسألة الثانية : قوله : { قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } يعني إن كان في قلبكم حب الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام ، وإن لم تكونوا كذلك ، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم ، يعني كونوا إما من رجال الدين ، أو من رجال الدنيا . قال السدي وابن جريج : ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا ، قالوا : لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة ، والأول هو الوجه .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا } تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا ، وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات .

ثم قال تعالى : { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان : الأول : أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة ، فلهذا رجعنا . الثاني : أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له قتال ، وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة ، وما كان يستصوب الخروج .

واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد ، وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم ، وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ، ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب : فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا ، وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا ، بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ، ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد ، فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق ، وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس ، وإما الاستهزاء . وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضا باطل ، لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والإعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة .

ثم إنه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال : { هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في التأويل وجهان : الأول : أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الإيمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم ، فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين .

واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وأيضا قولهم : { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } يدل على أنهم ليسوا من المسلمين ، وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين ، وإما على عدم الوثوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهما كفر .

الوجه الثاني : في التأويل أن يكون المراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين .

المسألة الثانية : قال أكثر العلماء : إن هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار ، قال الحسن إذا قال الله تعالى : { أقرب } فهو اليقين بأنهم مشركون ، وهو مثل قوله : { مائة ألف أو يزيدون } فهذه الزيادة لا شك فيها ، وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكفر ، فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر . وقال الواحدي في «البسيط » : هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره ، لأنه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين ، لإظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله .

ثم قال تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم ، فهم وإن كانوا يظهرون الإيمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر .

ثم قال : { والله أعلم بما يكتمون } .

فإن قيل : إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر ، فما معنى قوله : { والله أعلم بما يكتمون } .

قلنا : المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره .