وأنه إذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته ، أنه يفرح ويبطر ، ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير ، ويقول : { ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي : فرح{[425]} بما أوتي مما يوافق هوى نفسه ، فخور بنعم الله على عباد الله ، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس ، والتكبر على الخلق ، واحتقارهم وازدرائهم ، وأي عيب أشد من هذا ؟ "
وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضده ،
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة ، إلا من رحم الله من عباده المؤمنين ، فإنه إذا أصابته شدة بعد نعمة ، حصل له يأس{[14511]} وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل ، وكفر وجحود لماضي الحال ، كأنه لم ير خيرا ، ولم يَرْج{[14512]} بعد ذلك فرجا . وهكذا إن{[14513]} أصابته نعمة بعد نقمة { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } أي : يقول : ما بقي ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء ، { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي : فرح بما في يده ، بطر فخور على غيره .
{ ولئن أذقناه نعماء بعد ضرّاء مسّته } كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم ، وفي اختلاف الفعلين نكتة لا تخفى . { ليقولن ذهب السيئات عني } أي المصائب التي ساءتني . { إنه لفرح } بطر بالنعم مغتر بها . { فخور } على الناس مشغول عن الشكر والقيام بحقها ، وفي لفظ الإذاقة والمس تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم والمحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة ، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لأن الذوق إدراك الطعم والمس مبتدأ الوصول .
هذه الجملة تتميم للّتي قبلها لأنها حكت حالة ضدّ الحالة في الّتي قبلها ، وهي جملة قسم وشرط وجواب قسم كما تقدم في نظائرها .
وضمير { أذقناه } المنصوب عائد إلى الإنسان فتعريفه كتعريف معاده للاستغراق بالمعنى المتقدم .
والنعماء بفتح النون وبالمد النعمة واختير هذا اللفظ هنا وإن كان لفظ النعمة أشهر لمحسن رعي النظير في زنة اللّفظين النعماء والضراء . والمراد هنا النعمة الحاصلة بعد الضراء .
والمس مستعمل في مطلق الإصابة على وجه المجاز . واختيار فعل الإذاقة لما تقدم ، واختيار فعل المس بالنسبة إلى إدراك الضرّاء إيماء إلى أنّ إصابة الضرّاء أخفّ من إصابة النّعماء ، وأن لطف الله شامل لعباده في كلّ حال .
وأكّدَت الجملة باللاّم الموطئة للقَسَم وبنون التّوكيد في جملة جواب القسم لمثل الغرض الذي بيّنّاه في الجملة السابقة .
وجعل جواب القسم القول للإشارة إلى أنّه تبجحٌ وتفاخر ، فالخبر في قوله : { ذهب السيئات عنّي } مستعمل في الازدهاء والإعجاب ، وذلك هو مقتضى زيادة { عنّي } متعلقاً ب { ذهب } للإشارة إلى اعتقاد كل واحد أنّه حقيق بأن تَذهب عنه السيّئات غروراً منه بنفسه ، كما في قوله : { ولئن أذقناه رحمةً منّا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمةً ولئن رجعت إلى ربّي إن لي عندَه لَلْحسنى } [ فصلت : 50 ] .
وجملة { إنّه لفرح فخور } استئناف ابتدائي للتعجيب من حاله ، و ( فرح وفخور ) مثالاَ مبالغة ، أي لشديد الفرح شديد الفخر . وشدة الفرح : تجاوزه الحد وهو البطر والأشَر ، كما في قوله : { إنّ اللّهَ لاَ يُحبُّ الْفَرحين } [ القصص : 76 ] .
والفخر : تباهي المرء على غيره بما له من الأشياء المحبوبة للنّاس .
والمعنى أنّه لا يشكر الله على النعمة بعد البأساء وَمَا كان فيه من الضرّاء فلا يتفكر في وجود خالق الأسباب وَنَاقل الأحوال ، والمخالف بين أسبابها . وفي معنى الآيتين قولُه في سورة [ الشورى : 48 ] { وَإنّا إذا أذقنا الإنسانَ منّا رحمةً فَرحَ بهَا وإن تصبهم سيئةٌ بما قدمت أيديهم فإنّ الإنسانَ كفور . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ}، يقول: ولَئن آتيْناه خيراً وعافيةً، {بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}، يقول: بعد شدّةٍ وبَلاءٍ أصابه، يعني الكافر، {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} الضَّرّاءُ الذي كان نَزَلَ به، {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} يعني: لَبَطِرٌ في حال الرَّخاءِ والعافيَةِ، ثم قال: {فَخُورٌ} في نِعَم الله عَزَّ وجَلَّ، إذ لا يأخذُها بالشُّكر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاء في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه وذلك هي النعم التي قال الله جلّ ثناؤه:"وَلَئِنْ أذَقْناهُ نَعْماءَ". وقوله: "بَعْدَ ضَرّاءَ "يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه وعسرة كان يعالجها، "لَيَقُولَنّ ذَهَبَ السّيّئاتُ عَنّي "يقول تعالى ذكره: ليقولنّ عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره. "إنّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ" يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم التي يُعطاها مسرور بها فخور، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا وما بسط له فيها من العيش، وينسى صروفها ونكد العوارض فيها، ويدع طلب النعيم الذي يبقى والسرور الذي يدوم فلا يزول...
عن ابن جريج، قوله: "ذَهَبَ السّيّئاتُ عَنّي"؛ غرّة بالله وجراءة عليه. "إنّهُ لَفَرِحٌ" والله لا يحبّ الفرحين، "فَخُورٌ" بعد ما أعطي الله، وهو لا يشكر الله.
ثم استثني جلّ ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين الذين صبروا وعملوا الصالحات. وإنما جاز استثناؤهم منه لأن الإنسان بمعنى الجنس ومعنى الجمع، وهو كقوله: "وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ" فقال تعالى ذكره: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه، فإن نالوا فيها رخاء وسعة شكروه وأدّوا حقوقه بما أتاهم منها. يقول الله: أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم. "وأجْرٌ كَبِيرٌ" يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم ثواب على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا جزيل، وجزاء عظيم...
عن ابن جريج: "إلا الذين صبروا" عند البلاء، "وعملوا الصالحات" عند النعمة، لهم مغفرة لذنوبهم، وأجر كبير. قال: الجنة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الفَرَحُ هو: الرِّضا، كقوله: (وفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الرعد: 26] أي رَضُوا بها... وقوله تعالى: (فَخورٌ) يَفتخر على الفقراء بالمال الذي أُعْطِيَ، أو يَفتخر على الأنبياء والرسل بالتكذيب. وكذلك كانت عادةُ رؤسائهم أنهم كانوا ذوي مالٍ وسَعةٍ، فلا يَرَوْنَ الرسالةَ تكون في مَن دونَهم في المال...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أَقْسَمَ اللهُ تعالى في هذه الآية أنه لو أحلَّ بالإنسان "نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ "لأن الهاء كنايةٌ عن الإنسان الذي مضى ذِكرُه، والنَّعماء: إنْعامٌ يَظهَر أثرُه على صاحبه، والضَّرَّاءُ: مَضَرَّةٌ تَظهر الحالُ بها، لأنها أُخرِجتْ مخْرَجَ الأحوالِ الظاهرةِ كحمراء وعَوْراء مع ما فيها من المبالغة...
وقوله "لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي" أي يقول عند نزول النَّعْماء به بعد أن كان في ضِدِّها من الضَّرَّاء: ذَهبتِ الخِصالُ التي تَسوء صاحبَها من جهةِ نفورِ طبْعِه أو عقلِه، وهو -ههنا- بمعنى المرض والفقر، ونحو ذلك...
"إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ"... والفرحُ انفتاحُ القلبِ بما يَلْتَذُّ به وضِدُّه الغَمُّ، ومِثْلُه السُّرورُ والمَرَحُ. والفرحُ لَذَّةٌ في القلب أعظمُ من مَلَاذِّ الحَواسِّ.
والفَخورُ: المتطاولُ بتعديد المناقبِ، وفخورٌ: كثيرُ الفخرِ، وهي صفةُ ذَمٍّ إذا أُطلِقتْ لِما فيه مِن التكبُّر على مَن لا يجوز أن يَتكبَّر عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا كشَفْنا الضُرَّ عنهم رحمةً مِنَّا عادوا إلى تهتُّكِهم بدلاً من أن يتقرَّبوا إلينا، وأساءوا بخَلْعِ عِذَارِهم بدلَ أن يقوموا بشُكرنا، وكلّما أتَحْنَا لهم من إمْهالنا أَمِنوا بمكْرنا ولم يخافوا أنْ نأخذَهم فجأةً بقَهْرِنا...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
" لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي "يعني: يقول الإنسان: ذهب السيئاتُ عني باستحقاقي لذلك، ولا يراه من الله تعالى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائب التي ساءتني. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} أشر بطر. {فَخُورٌ} على الناس بما أذاقه الله من نعمائه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ولفظة {ذهب السيئات عني} تقتضي بطراً وجهلاً أن ذلك بإنعام من الله، واعتقاد أن ذلك اتفاق أو بسعد من الاعتقادات الفاسدة، وإلا فلو قالها من يعتقد أن ذهابها بإنعام من الله وفضل، لم يقع ذلك.
و {السيئات} ها هنا كل ما يسوء في الدنيا.
«لفرِح»... وهذا الفرح مطلق، ولذلك ذم، إذ الفرح انهمال النفس. ولا يأتي الفرح في القرآن ممدوحاً إلا إذا قيد بأنه في خير.
المسألة الثانية: لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم، فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان، وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران. فالدنيا في نفسها قليلة، والحاصل منها للإنسان الواحد قليل، والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل. ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين، فهذه الإذاقة قليل من قليل، ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها. وأما النعماء فقال الواحدي: إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء: مضرة يظهر أثرها على صاحبها، لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء، وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء.
المسألة الثالثة: اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية، بل هي أبدا في التغير والزوال، والتحول والانتقال، إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة، ومن اللذات إلى الآفات، وإما أن يكون بالعكس من ذلك، وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب، ومن المحرمات إلى الطيبات.
أما القسم الأول: فهو المراد من قوله: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور} وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يئوس كفور. وتقريره أن يقال: أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤوسا، وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي، ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس. وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس، بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت، وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفورا لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة. فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوسا وعند حصولها يكون كفورا.
وأما القسم الثاني: وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب، ومن المحنة إلى النعمة، فههنا الكافر يكون فرحا فخورا. أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر للسعادات الأخروية الروحانية، فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها، وأما كونه فخورا فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به، فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان استملاكه العارية طبعاً له، لا ينفك عنه إلا بمعونة شديدة من الله. دل عليه بما أفهم أنه لو كان طول عمره في الضر ثم نال حالة يرضاها عقب زمن الضر سواء بادر إلى اعتقاد أنها هي الحالة الأصلية له وأنها لا تفارقه أصلاً ولا يشوبها نوع ضرر ولا يخالط صفوها شيء من كدر. فقال دالاًّ على اتصال زمن الضر بالقول بنزع الخافض من الظرف: {بعد ضراء} أي فقر شديد مضر ببدنه، ولم يسند المس إليه سبحانه كما فعل في النعماء تعليماً للأدب، فقال: {مسته} أي بما كسبت يداه {ليقولن} مع قرب عهده بالضراء خفة وطيشاً {ذهب السيِّئات} أي كل ما يسوءني} عني {وقوله {إنه} الضمير فيه للإنسان، فالمعنى أن الإنسان. فهي كلية مشهورة بمستغرق، أي أن كل إنسان {لفرح فخور} أي خارج عن الحد في فرحه شديد الإفراط في فخره على غيره بكل نعمة تفضل الله عليه بها...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
في التعبير عن مُلابَسة الرحمةِ والنَّعْماءِ بالذوق المُؤْذِنِ بلذتهما وكونِهما مما يُرْغب فيه، وعن مُلابَسة الضَّرّاءِ بالمَسِّ المُشْعِرِ بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الملاقاةِ من مراتبها، وإسنادُ الأولِ إلى الله عز وجل دون الثاني، ما لا يَخْفَى من الجَزالة والدِلالةِ على أن مُرادَه تعالى إنما هو إيصالُ الخيرِ المرغوبِ فيه على أحسنِ ما يكون، وأنه إنما يريد بعباده اليُسْرَ دون العُسْرِ وإنما ينالُهم ذلك بسوء اختيارِهم نَيْلاً يسيراً كأنما يُلاصِقُ البَشَرَةَ من غير تأثيرٍ، وأما نزْعُ الرحمةِ فإنما صَدَر عنه بقضية الحِكمةِ الداعية إلى ذلك وهي كُفرانُهم بها كما سبق، وتنكيرُ الرحمة باعتبار لحُوقِ النَّزْعِ بها... {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنّي}... ولن يَعترِيَني بَعْدُ أمثالُها كما هو شأنُ أولئك الأشرارِ، فإن الترقّبَ لورود أمثالِها مما يُكَدِّر السرورَ ويُنَغِّص العيشَ...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته} النعماء بالفتح اسم من أنعم عليه إنعاما- كالنعمة بالكسر والنعمى بالضم- وهي ما يقابله بالضراء من الضر أي يقابل به النفع، ولم ترد النعماء في التنزيل إلا في هذه الآية. وهذه الإذاقة أخص مما قبلها، وهي تتضمن كشف الضراء السابقة وإحلال ما هو ضدها محلها، كالشفاء من المرض وزيادة العافية والقوة السابغة، والمخرج من العسر والفقر، إلى سعة الغنى واليسر، والنجاة من الخوف والذل، إلى بحبوحة المنعة والعز، يقول تعالى ولئن منحنا هذا الإنسان اليئوس والكفور نعماء أذقناه لذتها ونعمتها، بعد ضراء مسته باقترافه لأسبابها، إثر كشفها وإزالتها.
{ليقولن ذهب السيئات عني} أي ذهب ما كان يسوءني من المصائب والضراء فلن تعود، فما هي إلا سحابة صيف تقشعت فعلي أن أنساها بالتمتع باللذات {إنه لفرح فخور} أي إنه في هذه الحالة لشديد الفرح والمرح الذي يهيجه البطر بالنعمة، ومبالغ بالفخر والتعالي على الناس والاحتقار لمن دونه فيها، فهو لا يقابلها بشكر الله عليها.
روي أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل في عبد الله بن أمية المخزومي، والمراد أنها موافقة لحالهما، وهي إنما نزلت في ضمن السورة لبيان حالة الناس العامة ولذلك استثنى منها قوله تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والنَّعْماءُ -بفتح النون وبالمدِّ-: النِّعْمَةُ واختيرَ هذا اللفظُ هنا وإن كان لفظ النِّعمة أشهرَ لِمَحْسَنِ رَعْيِ النظيرِ في زِنَة اللّفظين النَّعْماء والضَّرَّاء...
واختيارُ فِعل المَسِّ بالنسبة إلى إدراك الضَّرّاء إيماءٌ إلى أنّ إصابة الضرّاء أخفُّ من إصابة النَّعماء، وأن لُطْفَ اللهِ شاملٌ لعباده في كلّ حالٍ...
الخبرُ في قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} مستعملٌ في الازدهاء والإعجاب، وذلك هو مقتضى زيادةِ {عَنِّي} متعلِّقاً بـ {ذَهَبَ} للإشارة إلى اعتقاد كل واحدٍ أنّه حَقِيقٌ بأن تَذهب عنه السيّئاتُ غروراً منه بنفسه... وجملةُ {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} استئنافٌ ابتدائيٌّ للتّعجيب من حاله... والمعنى أنّه... لا يتفكَّر في وجود خالقِ الأسباب وَنَاقلِ الأحوال، والمُخالِفِ بين أسبابها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي}... والتعبيرُ بالماضي دليلٌ على تأكيد الذهاب، وهو لا يُسْنِدُ ذلك لله، بل يَذكُره من غير إسنادٍ للمُنْعِم وكأنه جاء عفواً من غير مُسَبِّبِ الأسبابِ ومُقَدِّرِ الأقدارِ...
هكذا الماديُّ لا يؤمن إلا بما هو فيه ناسياً ما كان معتبَراً به، فلهُ الساعاتُ التي هو فيها لا يفكِّر فيما سواها، وفي وصفه يقول الله تعالى: {فَخُورٌ} أنه يتطاول على غيره مغترا بما آلت إليه حاله، والفخر فيه أمران مُفْسِدان للنَّفْس: الأمر الأول: المطاوَلةُ على الغَيْر وغَمْطُ الناسِ حقوقَهم. الأمر الثاني: إنكارُ نعمةِ المُنْعِمِ معتقِداً أنه مجهودُه وعملُه وليس بعطاءٍ من الله وإنّ التفاخُرَ يُوهِمُ صاحبَه أنه في حالٍ لم يَصِلْ إليها غيرُه فيتخيَّل ما ليس عنده... وهذا شأْنُ الإنسانِ الذي لم يُؤْتِهِ اللهُ تعالى صبرَ المؤمنين ولا ضَبْطَ نفوسِهم، ولذلك استثنَى الّذِينَ صَبَرُوا وآمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ من عموم الإنسانِ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتناول كتاب الله بالوصف والتحليل نفسية الأشخاص القلقين، من ضعفاء الإيمان وضعفاء النفس، في حالتي الشدة والرخاء، مبينا أن هذا الرهط من الناس إذا أصابته شدة بعد الرخاء لا يلبث أن تنهار أعصابه، ويبلغ به اليأس والقنوط من رحمة الله إلى أقصى حد، حتى كأنه لم ينل في سابق حياته من ربه أي عطاء أو إحسان،فهو عاجز كل العجز عن تحمل الصدمات، ضعيف كل الضعف عن مواجهة الأزمات، وكلما طال به أمد الشدة تضاءل أمام نفسه وأمام الناس، فيصبح قزما بعدما كان عملاقا، ويعود حماما وديعا بعدما كان سبعا ضاريا، كما أنه إذا أصابه رخاء بعد الشدة عاجله البطر بالنعمة، وأصابه نوع من الإغماء والذهول من شدة الفرح الزائد عن الحد المعتاد، فلم يعد يضبط نفسه ولا عواطفه، واعتقد أن الرخاء الذي نزل بساحته سوف لا يفارقه إلى الأبد، فأمن مكر الله، ونسي نعمة الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا في إيجاز وإعجاز
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}، ليس هو الفرَح الهادئ الذي يستمتع بالنتائج الحاضرةِ بطريقةِ لا أثرَ فيها للبَطَر وللخُيَلاء، بل هو الفرَح المتحرِّكُ بالزَّهْو الاستعراضيِّ المتكبِّر، الذي يعمَل على الإيحاء بعظمة الذات، وسِحْرِ الشخصية، كما أنه ليس الفخر الواقعيَّ الذي يقف أمام حدود القيمة داخل حركة الحياة مِن حوله، بل هو الفخر المتعاظِم بالمجد الضخم الذي ارتفع إليه من دون بحثٍ عن مواقع القيمة في حركة الحياة الواقعية، وتلك هي الشخصيّةُ المهتزّةُ الواقعةُ في مَهَبِّ الرّيح، فلا مجال لديها لأيّ استقرارٍ في الفكر والشعور والموقف، لفقدانها القاعدة الصلبة التي ترتكز عليها في انفعالها بالأحداث، وفي تأثّرها بالقضايا، وفي التزامها بالمواقف، وذلك هو سِرُّ الضعفِ في عمق هذه الشخصية القلِقةِ غيرِ المتوازنةِ...