171- رد اللَّه على اليهود في قولهم : إن بني إسرائيل لم تصدر منهم مخالفة في الحق ، فقال : واذكر لهم - أيها النبي - حين رفعنا الجبل فوق رؤوس بني إسرائيل كأنه غمامة ، وفزعوا لظنهم أنه واقع عليهم ، وقلنا لهم - في حالة الرفع ورهبتهم - خذوا ما أعطيناكم من هدى في التوراة بجد وعزم على الطاعة ، وتذكروا ما فيه لعلكم تعتبرون وتتهذب نفوسكم بالتقوى .
قوله تعالى : { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } ، أي : قلعنا ، وقال المؤرج : قطعنا ، وقال الفراء علقنا ، وقيل : رفعنا .
قوله تعالى : { كأنه ظلة } ، قال عطاء : سقيفة ، والظلة : كل ما أظلك .
قوله تعالى : { وظنوا } علموا .
قوله تعالى : { أنه واقع بهم خذوا } أي : وقلنا لهم خذوا .
قوله تعالى : { ما آتيناكم بقوة } ، بجد واجتهاد .
قوله تعالى : { واذكروا ما فيه } ، واعملوا به .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } ، وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ، فرفع الله على رؤوسهم جبلاً ، قال الحسن : فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر ، ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من أن يسقط عليه ، ولذلك لا تجد يهودياً إلا ويكون سجوده على حاجبه الأيسر .
171 ثم قال تعالى : وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ حين امتنعوا من قبول ما في التوراة .
فألزمهم اللّه العمل ونتق فوق رءوسهم الجبل ، فصار فوقهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ وقيل لهم : خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ أي : بجد واجتهاد .
وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ دراسة ومباحثة ، واتصافا بالعمل به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذا فعلتم ذلك .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } يقول : رفعناه ، وهو قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [ النساء : 154 ]
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رفعته الملائكة فوق رءوسهم .
وقال القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ثم سار بهم موسى ، عليه السلام ، متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمره{[12291]} الله تعالى [ به ]{[12292]} - أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق{[12293]} الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، قال : رفعته الملائكة فوق رءوسهم . رواه النسائي بطوله{[12294]}
وقال سنيد بن داود في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : هذا كتاب ، أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم ؟ قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة ، وحدودها خفيفة قبلناها . قال : اقبلوها بما فيها . قالوا : لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها ؟ فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء ، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي ،
عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها ، لأرمينكم بهذا الجبل . قال : فحدثني الحسن البصري قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرقًا من أن يسقط [ عليه ]{[12295]} فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة . قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ، ولا كبير ، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه . [ أي : حرك كما قال تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [ الإسراء : 51 ] أي يحركونها ]{[12296]}
{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم } أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب . { كأنه ظُلّة } سقيفة وهي ما أظلك . { وظنّوا } وتيقنوا . { أنه واقع بهم } ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به ، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم . وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم . { خذوا } على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا . { ما آتيناكم } من الكتاب . { بقوة } بجد وعزم على تحمل مشاقه ، وهو حال من الواو . { واذكروا ما فيه } بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي . { لعلكم تتقون } قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق .
عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه السلام ، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم ، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت ، ولا مثلَ خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب . فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى ، بقرينة المقام .
والجملة معطوفة على الجمل قبلها .
و { إذْ } متعلقة بمحذوف تقديره : واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم .
والنتق : الفصل والقلع . والجبل الطور .
وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفاً لهم ، لتكون مُذَكرة لهم ، فيعقب ذلك أخذُ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة ، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه السلام تصديقاً له فيما سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة ( 63 ) عند قوله تعالى : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } والظلة السحابة ، وجملة : { خذوا ما آتيناكم } مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام ، وحذفُ القول في مثله شائع كثير ، وتقدم نظيرها في سورة البقرة .
وعُدّي { واقع } بالباء : للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابساً لهم ففتتهم ، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه ، وهذا وجه الجمع بين قوله { فوقهم } وبين باء الملابسة . وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى ( على ) .
وجملة : { خُذوا ما آتيناكم بقوة } مقول قول محذوف . وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة .