اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٞ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (171)

قوله تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } الآية .

قال أبو عبيدة : النَّتْقُ : قلعُ الشيء من موضعه ، والرَّمْيُ به ، ومنه : نَتَقَ ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه ، وامرأة ناتِقٌ ، ومِنْتَاقٌ : إذا كانت كثيرة الولادة ، وفي الحديث : " عليْكُمْ بزواج الأبْكارِ ، فإنَّهُنَّ أطْيَبُ أفواهاً ، وأنْتَقُ أرْحاماً ، وأرضى باليسَيرِ " .

وقيل : النتَّق : الجَذْبُ بشدة . ومنه : نتقْتُ السِّقَاءِ إذا جذبْتَهُ لتقتلعَ الزُّبدْةَ من فم القرية .

قال الفرَّاءُ : " هو الرفعُ " وقال ابن قتيبة : الزَّعْزَعَةُ ، وبه فَسَّرَهُ مجاهد .

وقال النَّابغة : [ الكامل ]

لَمْ يُحْرَمُوا حُسنَ الغذَاءِ وأمَّهُمْ *** طَفَحَتْ عليْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ{[16975]}

وكلُّها معانٍ متقاربة .

قوله : " فَوقَهُمْ " فيه وجهان :

أحدهما : هو متعلِّقٌ بمحذوف ، على أنَّه حال من الجَبَل وهي حالٌ مقدرة ؛ لأنَّ حالةَ النَّتْق لم تكن فوقهم ، لكن بالنَّتْق صار فوقهم .

والثاني : أنه ظرفٌ ل : نَتَقْنَا قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ .

قال أبو حيان{[16976]} : ولا يمكن ذلك ، إلاَّ أن يُضَمَّن معنى فِعْلِ يمكن أن يعمل في فَوقَهُمْ أي : رفعنا بالنَّتْقِ الجبل فوقهم ، فيكون كقوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] . فعلى هذا يكون فَوقَهُمْ منصوباً ب " نتق " لا بمعنى رفع .

قوله : " كأنَّهُ ظُلَّةٌ " في محل نصبٍ على الحالِ من " الجَبَل " أيضاً فتتعدَّد الحال .

وقال مكيٌّ : هي خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو كأنه ظُلَّة وفيه بُعد . والظُّلَّة : كل ما أظلك . قال عطاءٌ : سقيفة .

قوله وَظَنُّوا فيه أوجه :

أحدها : أنَّهُ في محل جرٍّ نسقاً على نَتَقْنَا المخفوض بالظَّرف تقديراً .

والثاني : أنه حال و " قد " مقدرةٌ عند بعضهم ، وصاحبُ الحالِ إمَّا : الجبل أي : كأنَّهُ ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعه بهم ، ويضعف أن يكون صاحبُ الحال : هُمْ في : فَوْقَهُمْ .

الثالث : أنه مستأنف ، فلا محلَّ له ، والظنُّ هنا على بابه .

قال أهل المعاني : قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين .

قال المفسِّرُون : علموا وأيقنوا أنَّهُ واقع بهم والباء على بابها أيضاً .

قيل : ويجوز أن تكون بمعنى " على " .

قوله : { خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } أي :

وقلنا لهم خذوا ما أتيناكم بقوة بجد واجتهاد .

روي أنهم لمَّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ .

وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم ، فلمَّا نظروا إلى الجبل خَرَّ كل واحد منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهوديّاً سجد إلا على جانبه الأيسر ، ويقولون : هي السَّجدة التي رفعت عنَّا بها العقوبة .

قوله واذكُرُوا العامَّةُ على التخفيف أمْراً من : ذَكَرَ يَذْكُرَ : والأعمش{[16977]} واذَّكَرُوا بتشديد الذال من الأذّكار ، والأصل : اذتكرُوا ، والاذتكار ، تقدم تصريفه .

وقرأ ابن{[16978]} مسعود تذكَّرُوا من : " تذكَّر " بتشديد الكاف .

وقرئ{[16979]} وتذَّكَّرُوا بتشديد الذال والكاف والأصل : ولتتذكَّرُوا فأدغمت التاء في الذال ، وحُذِفِتْ لامُ الجزم كقوله : [ الوافر ]

مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ *** . . . {[16980]}

فصل

قال ابنُ عبَّاس وغيره : لمَّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل ، وفيها التوراة أمرهم بقبولها ، والأخذ بها بقوة .

فقالوا : انشرها علينا ، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها .

فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً ، فأمر اللَّهُ الملائكة ، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنَّهُ ظُلَّةٌ أي : غمامة فوق رءوسهم .

وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلاَّ سقط هذا الجبلُ عليكم ؛ فقبلوها ، وأمروا بالسُّجود ؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهودِ إلى اليوم .

ويقولون : لا سَجْدَةَ أعظم من سجدةٍ رفعت عنا العذاب{[16981]} .


[16975]:انظر: ديوانه 61، البحر 4/41.
[16976]:ينظر: البحر المحيط 4/418.
[16977]:ينظر: المحرر الوجيز 2/474، والبحر المحيط 4/419، والدر المصون 3/369.
[16978]:ينظر: السابق، والكشاف 2/175.
[16979]:ينظر: البحر المحيط 4/419، والدر المصون 3/369.
[16980]:تقدم.
[16981]:أخرجه الطبري في تفسيره (6/108-109).