البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَإِذۡ نَتَقۡنَا ٱلۡجَبَلَ فَوۡقَهُمۡ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٞ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُۥ وَاقِعُۢ بِهِمۡ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (171)

النّتق الجذب بشدة وفسّره بعضهم بغايته وهو القلع وتقول العرب نتقت الزبدة من فم القربة والناتق الرّحم التي تقلع الولد من الرجل .

وقال النابغة :

لم يحرموا حسن الفداء وأمّهم *** طفحت عليك بناتق مذكار

وفي الحديث « عليكم بزواج الأبكار فإنهن انتق أرحاماً وأطيب أفواهاً وأرضى باليسير »

وقال ابن السّكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء واحدة وجمعه سواء ، وقال الشاعر :

إنا وحدنا خلفاً بئس الخلف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل وقف

انتهى .

وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت ، وقال النضر بن شميل : التحريك والإسكان معاً في القرآن الردى وأما الصالح فبالتحريك لا غير وأكثر أهل اللغة على هذا إلا الفرّاء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح والخلف أما مصدر خلف ولذلك لا يثنّي ولا يجمع ولا يؤنث وإن ثنى وجمع وأنّث ما قبله وإما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب قاله ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال ابن عباس وابن زيد : هنا هم اليهود ، قال الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ورثوا الكتاب } التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال الطبري هم أبناء اليهود وعن مجاهد أنهم النصار وعنه أنهم هؤلاء الأمة ، وقرأ الحسن : { ورثوا } بضم الواو وتشديد الراء وعلى الأقوال يتخرّج { الكتاب } أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن و { عرض هذا الأدنى } هو ما يأخذونه من الرِّشا والمكاسب الخبيثة والعرض ما يعرض ولا يثبت وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدّمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى :

{ ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً } والأدنى من الدنو وهو القرب لأن ذلك قريب منقضٍ زائل ، قال الزمخشري : وإما من دنو الحال وسقوطها وقلّتها ، ويقولون { سيغفر لنا } قطع على الله بغفران معاصيهم أي لا يؤاخدنا الله بذلك والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، و { لنا } في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وقيل ضمير مصدر يأخذون أي { سيغفر } هو أي الأخذ { لنا } .

{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } .

الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرّشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائماً فهم مصرُّون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله والعرض بفتح الراء متاع الدنيا قاله أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البرّ والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رؤوس الأموال وقيم المتلفات ، قال السدّي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولّى المعير ارتشى ، وقيل كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى .

وقال الشاعر :

إذا ما صبّ في القنديل زيت *** تحوّلت القضية للمقندل

وقال آخر :

لم يفتح الناس أبواباً ولا عرفوا *** أجدى وأنجح في الحاجات من طبق

إذا تعمم بالمنديل في طبق *** لم يخش نبوة بواب ولا غلق

ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لتسلكنّ سنن من قبلكم » ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ، وقال الزمخشري : الواو للحال يعني في وإن يأتهم أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين وغفران الذنوب لا يصحّ إلا بالتوبة والمصرّ لا غفران له انتهى ، وجمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال والظاهر ما قدّمناه ولا يردّ عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالاً لأنّ ذلك جائز .

{ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يِقولوا على الله إلا الحقّ ودرسوا ما فيه } .

هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق لا يكذبون على الله .

قال ابن زيد : كان يأتيهم المحقّ برشوة فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه { أن لا يقولوا على الله إلا الحقّ } ، وقال بعضهم : هو قولهم { سيغفر لنا } ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره و { أن لا يقولوا } في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ، وقال الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب وفيه إنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه وإن فسّر { ميثاق الكتاب } بما تقدم ذكره كان { أن لا يقولوا } مفعولاً له ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون مفسّرة ولا يقولوا نهياً ، كأنه قيل ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق ، وقال أيضاً : قبل ذلك { ميثاق الكتاب } يعني قوله في التوراة من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وكسر فتحة همزتها لغة سليم وهي عندي حرف بسيط لا مركب وجامد لا مشتق وذكر صاحب كتاب اللوامح أن أيّان في الأصل كان أيّ أوان فلما كثر دوره حذفت الهمزة على غير قياس ولا عوض وقلبت الواو ياء فاجتمعت ثلاث ياءات فحذفت إحداها فصارت على ما رأيت انتهى ، وزعم أبو الفتح أنه فعلان وفعلال مشتق من أي ومعناه أي وقت وأي فعل من أويت إليه لأنّ البعض آو إلى الكل متساند إليه وامتنع أن يكون فعالاً وفعالاً من أين لأن أيّان ظرف زمان وأين ظرف مكان فأوجب ذلك أن يكون من لفظ أي لزيادة النون ولأن أيان استفهام كما أن أياً كذلك والأصل عدم التركيب وفي أسماء الاستفهام والشرط الجمود كمتى وحيثما وأنى وإذا ، رسا يرسو ثبت .

الحفي المستقصي للشيء المحتفل به المعتني ، وفلان حفي بي بارّ معتن .

وقال الشاعر :

فلما التقينا بين السيف بيننا *** لسائلة عنا حفيّ سؤالها

وقال آخر :

سؤال حفي عن أخيه كأنه *** بذكرته وسنان أو متواسن

والإحفاء الاستقصاء ومنه احفاء الشارب والحافي أي حفيت قدميه للاستقصاء في السّير والحفاوة البر واللطف .

{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم } أي جذبنا الجبل بشدة و { فوقهم } حال مقدرة والعامل فيها محذوف تقديره كائناً فوقهم إذ كانت حالة النتق لم تقارن الفوقية لكنه صار فوقهم ، وقال الحوفي وأبو البقاء : { فوقهم } ظرف لنتقنا ولا يمكن ذلك إلا أن ضمن { نتقنا } معنى فعل يمكن أن يعمل في { فوقهم } أي رفعنا بالنتق الجبل فوقهم فيكون كقوله

{ ورفعنا فوقهم الطور } والجملة من قوله { كأنه ظلة } في موضع الحال والمعنى كأنه عليهم ظلّة والظلّة ما أظلّ من سقيفة أو سحاب وينبغي أن يحمل التشبيه على أنه بظلة مخصوصة لأنه إذا كان كلّ ما أظل يسمى ظلة فالجبل فوقهم صار ظلة وإذا صار ظلّة فكيف يشبه بظلة فالمعنى والله أعلم كأنه حالة ارتفاعه عليهم ظلة من الغمام وهي الظلة التي ليست تحتها عمد بل إمساكها بالقدرة الإلهية وإن كانت أجراماً بخلاف الظلّة الأرضية فإنها لا تكون إلا على عمد فلما دانت هذه الظلمة الأرضية فوقهم بلا عمد شبهت بظلة الغمام التي ليست بلا عمد ، وقيل : اعتاد البشر هذه الأجرام الأرضية ظللاً إذ كانت على عمد فلما كان الجبل مرتفعاً على غير عمد قيل : { كأنه ظلة } أي كأنه على عمد وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذ أشرف { وظنوا } هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين ، وقال المفسّرون : معناه أيقنوا ، وقال الزمخشري : علموا وليس كذلك بل هو غلبة ظن مع بقاء الرّجاء إلا أن قيد ذلك بقيد أن لا يعقلوا التوراة ، فإنه يكون بمعنى الإتقان ، وتقدّم ذكر سبب رفع الجبل فوقهم في تفسير قوله { ورفعنا فوقكم الطور } في البقرة فأغنى عن إعادته وقد كرره المفسرون هنا الزمخشري وابن عطية وغيرهما وذكر الزمخشري : هنا عند ذكر السبب أنه لما نشر موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله تعالى لم يبقَ شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديّاً يقرأ التوراة إلاّ اهتز وأنغض لها رأسه انتهى ، وقد سرت هذه النزعة إلى أولاد المسلمين فيما رأيت بديار مصر تراهم في المكتب إذا قرأوا القرآن يهتزون ويحركون رؤوسهم وأما في بلادنا بالأندلس والغرب فلو تحرّك صغير عند قراءة القرآن أدبه مؤدّب المكتب وقال له لا تتحرك فتشبه اليهود في الدراسة .

{ خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } .

قرأ الأعمش { واذكروا } بالتشديد من الإذكار ، وقرأ ابن مسعود وتذكروا وقرىء وتذكروا بالتشديد بمعنى وتذكّروا وتقدّم تفسير هذه الجمل في البقرة .