وقوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } : تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف ، بما أغنى عن إعادته أيضًا ، وأن المسلك الأسلم في{[19208]} ذلك طريقة السلف ، إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل .
وقوله { الرحمنُ } رفع بالابتداء ويصح أن يكون بدلاً من الضمير المستقر في { خلق } . وقوله { استوى } قالت فرقة : هو بمعنى استولى ، وقال أبو المعالي وغيره من المتكلمين : هو بمعنى استواء القهر والغلبة ، وقال سفيان الثوري : فعل فعلاً في العرش سماه استواء وقال الشعبي وجماعة غيره : هذا من متشابه القرآن يؤمن به ولا يعرض لمعناه ، وقال مالك بن أنس لرجال سأله عن هذا الاستواء فقال له مالك : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني ، فأدبر السائل وهو يقول : يا أبا عبد الله لقد سألت عنها أهل العراق وأهل الشام فما وفق احد توفيقك .
قال القاضي أبو محمد : وضعف أبو المعالي قول من قال لا يتكلم في تفسيرها بأن قال إن كل مؤمن يجمع على أن لفظة الاستواء ليست على عرفها في معهود الكلام العربي ، فإذا فعل هذا فقد فسر ضرورة ولا فائدة في تأخره على طلب الوجه والمخرج البين ، بل في ذلك البأس على الناس وإيهام للعوام ، وقد تقدم القول في مسألة الاستواء .
{ الرحمن } يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف لازم الحذف تبعاً للاستعمال في حذف المسند إليه كما سماه السكّاكي . ويجوز أن يكون مبتدأ . واختير وصف { الرحمن } لتعليم النّاس به لأن المشركين أنكروا تسميته تعالى الرحمان : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] . وفي ذكره هنا وكثرة التذكير به في القرآن بعث على إفراده بالعبادة شكراً على إحسانه بالرحمة البالغة .
وجملة { على العرش استوى } حال من { الرحمن } . أو خبر ثان عن المبتدأ المحذوف .
والاستواء : الاستقرار ، قال تعالى : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } [ المؤمنون : 28 ] الآية . وقال : { واستوت على الجوديّ } [ هود : 44 ] .
والعرش : عالم عظيم من العوالم العُليا ، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها . وقيل غير ذلك ، ويسمى : الكرسي أيضاً على الصحيح ، وقيل : الكرسي غير العرش .
وأيّاً مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله : { ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى } .
وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش . وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة .
وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف ، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى ، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة : أن ليس كمثله شيء .
وقيل : الاستواء يستعمل بمعنى الاستيلاء . وأنشدوا قول الأخطل :
قد استوى بشر على العراق *** بغير سيف ودممٍ مُهْراق
وهو مولّد . ويحتمل أنه تمثيل كالآية . ولعلّه انتزعه من هذه الآية .
وتقدم القول في هذا عند قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } في سورة [ الأعراف : 54 ] . وإنما أعدنا بعضه هنا لأن هذه الآية هي المشتهرة بين أصحابنا الأشعرية .
وفي تقييد الأبيّ على تفسير ابن عرفة : واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة .
قيل لابن عرفة : عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في حديث السوداء وغيرها ، فذكر النبي دليلٌ على عدم تكفير من يقول بالتجسيم ، فقال : هذا صعب ولكن تجاسرتُ على قوله اقتداء بالشيخ عز الدين لأنه سبقني لذلك .
وأتبع ما دلّ على عظمة سلطانه تعالى بما يزيده تقريراً وهو جملة : { له ما في السمَّوات } الخ . فهي بيان لجملة { الرحمان على العرش استوى } . والجملتان تدلان على عظيم قدرته لأن ذلك هو المقصود من سعة السلطان .
ابن تيمية: سئل مالك رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {الرحمان على العرش استوى} كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
قال الشافعي: واعلموا أن الله تعالى لا مكان له، والدليل عليه هو أن الله تعالى كان ولا مكان له، فخلق المكان، وهو على صفته الأزلية كما كان قبل خلقه المكان، إذ لا يجوز عليه التغير في ذاته، ولا التبدل في صفاته. ولأن من له مكان فله تحت ومن له تحت يكون متناهي الذات محدودا، والمحدود مخلوق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولهذا المعنى استحال عليه الزوجة والولد، لأن ذلك لا يتم إلا بالمباشرة والاتصال والانفصال، ومن يستحيل عليه التجزئة والتبعيض لا يتوهم منه الاتصال والانفصال، فلذلك كان الزوج والزوجة والولد في صفته محالا...
فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى: {اَلرَّحْمَانُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى}؟ يقال: إن هذه الآية من المتشابهات، والذي نختار من الجواب عنها وعن أمثالها لمن لا يريد التبحر في العلم أن يمر بها كما جاءت ولا يبحث عنها ولا يتكلم فيها، لأنه لا يأمن من الوقوع في ورطة التشبيه إذا لم يكن راسخا في العلم. ويجب أن يعتقد في صفات الباري تعالى ما ذكرناه وأنه لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان، منزه عن الحدود والنهايات، مستغن عن المكان والجهات، ويتخلص من المهالك والشبهات.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... إضافة الاستواء إليه لوجهين:
أحدهما: على تعظيمه بما ذكر على أثره، ذكر سلطانه في ربوبيته وقدرته وخلقه ما ذكر.
والثاني: على تخصيصه بالذكر بما هو أعظم الخلق وأجله على المعروف من إضافة الأمور العظيمة إلى أعظم الأشياء كما يقال: ثم لفلان ملك بلد كذا، أو استوى على موضع كذا لا على خصوص ذلك في الحق. ولكن معلوم أن من له ملك ذلك فما دونه أحق به.
وعلى ذلك قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} الآية [المائدة: بما صارت له أم القرى، وأيس الذين كفروا من دينهم. وكذا ما ذكر من إرسال الرسل إلى الفراعنة وإلى أم القرى لا بتخصيص ذلك ولكن بذكر عظم الأمر.
فمثله أمر العرش، وهو كقوله: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} [الأنعام: 123] وقوله {أمرنا مترفيها} [الإسراء: 16] على لحوق غيرهم بهم.
ويحتمل أن يكون على المنع بوصف المكان؛ إذ هو أعلى الأمكنة عند الخلق، ولا تقدر العقول شيئا...
وقال بعضهم: يريد بالعرش الملك؛ إذ هو اسم ما ارتفع من الأشياء، وعلا، حتى سميت به السطوح ورؤوس الأشجار والاستواء قيل فيه بأوجه ثلاث:
أحدها: الاستيلاء كما يقال: استوى فلان على كورة كذا بمعنى استولى.
والثاني: العلو والارتفاع كقوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] وقوله: {إذا استويتم عليه} [الزخرف: 13] أي علوتم.
والثالث: التمام كقوله: {ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14] أي تم، واستقر.
وقد قيل: بالقصد؛ وإلى ذلك وجه بعض أهل الأدب قوله: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29 و...] بمعنى خلق على التمثيل بفعل الخلق في ما يتلو فعلهم فعلا أن يكون بالقصد، وإن كان لا يقال له القصد، ولا قوة إلا بالله.
ثم الوجه في ذلك لو كان الاستواء بمعنى الاستيلاء والانفراد بالملك أنه مستول على جميع خلقه، وعلى هذا التأويل المحمول غير هذا لدل على الأمرين قوله: {وهو رب العرش العظيم} [التوبة: 129] بمعنى الملك العظيم، وفيه إثبات عروش غيره. فلذلك يَحتمل، ما يُحمل، وتَخُفُّ بِهِ الملائكة، والله الموفق.
وأما على تأويل التمام والعلو فهو أن الله تعالى قال: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} الآية [فصلت: 9] فأخبر بخلق ما ذكر في ستة أيام على التفاريق، ثم أجملها في موضع، فقال: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} إلى قوله {ثم استوى} [الأعراف: 54] بمعنى خلق الممتحن من خلق الأرض والسماوات؛ فيهم ظهر تمام الملك، وعلا وارتفع؛ إذ هم المقصودون من خلق ما بينا. فبذلك تم معنى الملك، وعلا؛ إذ وصل إلى الذين لهم خُلقوا.
وقد قيل ذا في خلق البشر خاصة بقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} الآية [البقرة: 29] وقوله: {سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض} [لقمان: 20] ونحوه...
والأصل عندنا في ذلك أن الله عز وجل قال: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] فنفى عن نفسه شبه خلقه، وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول في قوله {الرحمان على العرش استوى} [طه: 5] على ما جاء به التنزيل، إذ ينفي عنه شبه الخلق لما أضاف إليه إذ لزم القول في الله بالتعالي عن الأشباه ذاتا وفعلا، لم يجز أن يُفهم من الإضافة إليه المفهوم من غيره في الوجود، والله الموفق.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
...وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل {استوى}: استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد، وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، وإنما يوجه كلام الله- عز وجل- إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله- عز وجل- أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين. والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم، هو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
اعلم أن مخارج الاستواء في اللغة كثيرة: وقد يكون بمعنى العلو، وقد يكون بمعنى الاستقرار، وقد يكون بمعنى الاستيلاء -على بُعْدِ- وقد يكون بمعنى الإقبال...
والمذهب عند أهل السنة أنه يؤمن به ولا يكيف.
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
... وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال ...
... لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش والسماء، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، كما لا تزيده بعدا عن الأرض والثرى، بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء، كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد. [الإحياء: 1/108]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان القادر قد لا يكون ملكاً، قال دالاًّ على ملكه مادحاً له بالقطع خبراً لمبتدأ محذوف: {الرحمن} مفتتحاً بالوصف المفيض للنعم العامة للطائع والعاصي؛ ثم ذكر خبراً ثانياً دالاً على عموم الرحمة فقال: {على العرش} الحاوي لذلك كله {استوى} أي أخذ في تدبير ذلك منفرداً، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم: فلان استوى، أي جلس معتدلاً على سرير الملك، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلاً، هذا روح هذه العبارة، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء "أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك، وهو عليه يسير خفيف كخفته على من هذا الحالة، وليس المراد أن هناك إصبعاً أصلاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي نزل القرآن من الملأ الأعلى، وخلق الأرض والسماوات العلى، هو {الرحمن} فما نزله على عبده ليشقى. وصفة الرحمة هي التي تبرز هنا للإلمام بهذا المعنى. وهو المهيمن على الكون كله. {على العرش استوى} والاستواء على العرش كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء. فأمر الناس إذن إليه وما على الرسول إلا التذكرة لمن يخشى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستواء: الاستقرار، قال تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] الآية. وقال: {واستوت على الجوديّ} [هود: 44]. والعرش: عالم عظيم من العوالم العُليا، فقيل هو أعلى سماء من السماوات وأعظمها. وقيل غير ذلك، ويسمى: الكرسي أيضاً على الصحيح، وقيل: الكرسي غير العرش. وأيّاً مّا كان فذكر الاستواء عليه زيادة في تصوير عظمة الله تعالى وسعة سلطانه بعد قوله: {ممَّن خلقَ الأرضَ والسموات العُلى}. وأما ذكر الاستواء فتأويله أنه تمثيل لشأن عظمة الله بعظمة أعظم الملوك الذين يجلسون على العروش. وقد عَرَف العرب من أولئك ملوكَ الفرس وملوكَ الروم وكان هؤلاء مضرب الأمثال عندهم في العظمة. وحَسّنَ التعبيرَ بالاستواء مقارنته بالعرش الذي هو ممّا يُستوى عليه في المتعارف، فكان ذكر الاستواء كالترشيح لإطلاق العرش على السماء العظمى، فالآية من المتشابه البيّن تأويله باستعمال العرب وبما تقرر في العقيدة: أن ليس كمثله شيء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومما يستلفت النظر في هذا السياق أن كتاب الله اختار فيه من بين أسماء الله الحسنى اسم (الرحمان) بالخصوص، فقال تعالى: {الرحمان على العرش استوى} ولم يقل القهار أو الجبار مثلا، إشعارا للعباد بأن رحمة الله تسع كل شيء، حتى في هذا المقام، مقام العظمة والجلال، مما يجعله جلالا مقرونا بالجمال، ويفتح في وجوه المذنبين والمنحرفين باب الأمل في فضل الكبير المتعال، ونفس الاختيار لاسم (الرحمان) في مثل هذا المقام نجد في قوله تعالى {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمان عبدا} [مريم: 93].
فالآية السابقة أعطتنا مظهرا من مظاهر العطف والرحمة، وهذه تعطينا مظهرا من مظاهر القهر والغلبة، واستواء الرحمن – تبارك وتعالى – على العرش يؤخذ في إطار {ليس كمثله شيء} (الشورى) وسبق أن تكلمنا في الصفات المشتركة بين الحق سبحانه وبين خلقه، فلك سمع وبصر، ولله سمع وبصر، لكن إياك أن تظن أن سمع الله كسمعك، أو أن بصره كبصرك. كذلك في مسألة الاستواء على العرش، فللحق سبحانه استواء على عرشه، لكنه ليس كاستوائك أنت على الكرسي مثلا. والعرش في عرف العرب هو سرير الملك، وهل يجلس الملك على سريره ليباشر أمر مملكته ويدير شئونها إلا بعد أن يستتب له الأمر؟ وكذلك الخالق – جل وعلا – خلق الكون بأرضه وسمائه، وخلق الخلق، وأنزل القرآن لينظم حياتهم، وبعد أن استتب له الأمر لم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيا، ولم ينعزل عن كونه وعن خلقه؛ لأنهم في حاجة إلى قيوميته تعالى في خلقه... فكون الله ليس آلة تعمل من تلقاء نفسها، وإنما هو قائم بقيوميته عليه لا يخرج عنها؛ لذلك كانت المعجزات التي تخرق نواميس الكون دليلا على هذه القيومية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتأتي كلمة الرحمن لتخفف من تأثير الصفة العظيمة التي تضغط على المشاعر، في ما توحي به من رهبة وروعة وقوة، عندما يقف الإنسان أمام خالق السماوات والأرض، لتكون صفة الرحمة موحية بالانفتاح الحميم على الله، بحيث يحس الإنسان أمام الله بالقرب من رحمة الله ولطفه ورضوانه. والاستواء على العرش، كناية عن الاستيلاء على السلطة، في ما تمثله كلمة العرش من الموقع الأرفع والمقام الأعلى الذي يجلس عليه صاحب السلطان ليحكم من خلاله، وهذا رمز للملك. وهذا المعنى ليس مقصوداً بذاته في معناه المادي حتى بالنسبة إلى صاحب الملك في الدنيا، فإذا قيل إن الملك قد جلس على العرش، فإنهم يريدون به استيلاءه على السلطة، كما أن ذلك مستحيل بالنسبة إلى الله، باعتبار أنه ليس كمثله شيء، فلا يمكن أن يكون جسماً، أو يحتويه مكان... وإذا كان العرش يمثل في مضمونه الكنائي الموقع الذي يطل على الكون كله، فإن الاستواء عليه يمثل الإشراف على مواقع السلطة كلها، من صغير الأمور وكبيرها، وقريب الأشياء وبعيدها، فليس شيء أقرب إليه من شيء، وكانت نسبة الأشياء إليه على حد سواء... ولعل مثل هذا الاستيحاء الكنائي في الآية لا يدخل في باب التأويل الذي يذهب بعض الناس إلى ضرورة إبعاد القرآن عنه، لأن ذلك يؤدي إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع، وهو قول الباطنية، بل إن ذلك يندرج في الفهم البلاغي القرآني الذي لا يقتصر على حمل الألفاظ على معانيها اللغوية الحقيقية، بل يتسع للمعاني المجازية الواردة على طريقة الكناية والاستعارة، على أساس وجود بعض القرائن العقلية واللفظية التي تصرف اللفظ عن ظاهره، فتكون المسألة من باب رد المتشابه إلى المحكم.. فإذا كان العقل يحيل فكرة جسمية الله وخضوع أفعاله لما يخضع له خلقه في أوضاعهم المادية، وإذا كان القرآن يؤكد أنه ليس كمثله شيء، سبحانه وتعالى عما يصفون، فإن ذلك يؤكد المعنى الكنائي الجديد، في إرادته من اللفظ، والله العالم.