96- ولو أن أهل تلك القرى آمنوا بما جاء به الرسل ، وعملوا بوصاياهم وابتعدوا عما حرَّمه الله لأعطيناهم بركات من السماء والأرض ، كالمطر والنبات والثمار والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات ، ولكن جحدوا وكذبوا الرسل ، فأصبناهم بالعقوبات وهم نائمون ، بسبب ما كانوا يقترفون من الشرك والمعاصي ، فأخذهم بالعقوبة أَثرٌ لازم لكسبهم القبيح ، وعبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون .
{ 96 - 99 ْ } { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ْ }
لما ذكر تعالى أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا ، وبالسراء استدراجا ومكرا ، ذكر أن أهل القرى ، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال ، واستعملوا تقوى اللّه تعالى ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه ، لفتح عليهم بركات السماء والأرض ، فأرسل السماء عليهم مدرارا ، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم ، في أخصب عيش وأغزر رزق ، من غير عناء ولا تعب ، ولا كد ولا نصب ، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا { فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ْ } بالعقوبات والبلايا ونزع البركات ، وكثرة الآفات ، وهي بعض جزاء أعمالهم ، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا ، ما ترك عليها من دابة . { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ْ }
يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى{[11984]} { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ]
أي : ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ الصافات : 147 ، 148 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ{[11985]} ] } [ سبأ : 34 ]
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي : آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل ، وصدقت به واتبعته ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات ، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : قطر السماء ونبات الأرض . قال تعالى : { وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ولكن كذبوا رسلهم ، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم .
{ ولو أن أهل القرى } يعني القرى المدلول عليها بقوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي } وقيل مكة وما حولها . { آمنوا واتقوا } مكان كفرهم وعصيانهم . { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات . وقرأ ابن عامر " لفتّحنّا " بالتشديد . { ولكن كذبوا } الرسل . { فأخذناهم بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي .
عُطفت جملة { ولو أن أهل القرى } على جملة : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] أي : ما أرسلنا في قرية نبيئاً فكذبه أهلها إلاّ نبهناهم واستدرجناهم ثم عاقبناهم ، ولو أن أهل تلك القرى المُهْلَكَةِ آمنوا بما جاءهم به رسولهم واتقوا ربهم لما أصبناهم بالبأساء ولأحييناهم حياة البركة ، أي : ما ظلمهم الله ولكنهم ظلموا أنفسهم .
وشرط ( لو ) الامتناعية يحصل في الزمن الماضي ، ولما جاءت جملة شرطها مقترنة بحرف ( أنّ ) المفيد للتأكيد والمصدرية ، وكان خبر ( أنّ ) فعلاً ماضياً توفر معنى المضي في جملة الشرط . والمعنى : لو حصل إيمانهم فيما مضى لفتحنا عليهم بركات .
والتقْوى : هي تقوى الله بالوقوف عند حدوده وذلك بعد الإيمان .
والتعريف في { القرى } تعريف العهد ، فإضافة { أهل } إليه تفيد عمومه بقدر ما أضيف هو إليه ، وهذا تصريح بما أفهمه الإيجاز في قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] الآية كما تقدم ، وتعريض بإنذار الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، وتعريض ببشارة أهل القُرى الذين يؤمنون كأهل المدينة ، وقد مضى في صدر تفسير هذه السورة ما يقرّب أنها من آخر ما نزل بمكة ، وقيل ، إن آيات منها نزلت بالمدينة كما تقدم وبذلك يظهر موقع التعريض بالنذارة والبشارة للفريقين من أهل القرى ، وقد أخذ الله أهل مكة بعد خروج المؤمنين منها فأصابهم بسبع سنين من القحط ، وبارك لأهل المدينة وأغناهم وصرف عنهم الحمى إلى الجُحفة ، والجُحفة يومئذٍ بلاد شرك .
والفتح : إزالة حَجْز شيء حاجز عن الدخول إلى مكان ، يقال : فتح الباب وفتح البيت ، وتعديته إلى البيت على طريقة التوسع ، وأصله فتح للبيت ، وكذلك قوله هنا : { لفتحنا عليهم بركات } وقولُه : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها } [ فاطر : 2 ] ، ويقال : فتح كوة ، أي : جعلها فتحة ، والفتح هنا استعارة للتمكين ، كما تقدم في قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } في سورة الأنعام ( 44 ) .
وتعدية فعل الفتح إلى البركات هنا استعارة مكنية بتشبيه البركات بالبيوت في الانتفاع بما تحتويه ، فهنا استعارتان مكنية وتبعية ، وقرأ ابن عامر : { لفتّحنا } بتشديد التاءِ وهو يفيد المبالغة .
والبركات : جمع بركة ، والمقصود من الجمع تعددها ، باعتبار تعدد أصناف الأشياء المباركة . وتقدم تفسير البركة عند قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } في سورة الأنعام ( 92 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للّذي بمكّة مباركاً } في سورة آل عمران ( 96 ) . وتقدم أيضاً في قوله تعالى : { تَبارك الله رب العالمين } في هذه السورة ( 54 ) ، وجُماع معناها هو الخير الصالح الذي لا تبعة عليه في الآخرة فهو أحسن أحوال النعمة ، ولذلك عبر في جانب المغضوب عليهم المستدرَجين بلفظ الحسنة } بصيغة الإفراد في قوله : { مكان السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] وفي ج انب المؤمنين بالبركات مجموعة .
وقوله : { من السماء والأرض } مراد به حقيقته ، لأن ما يناله الناس من الخيرات الدنيوية لا يعدو أن يكون ناشئاً من الأرض ، وذلك معظم المنافع ، أو من السماء مثل ماء المطر وشعاع الشمس وضوء القمر والنجوم والهواء والرياح الصالحة .
وقوله : { ولكن كذبوا } استثناء لنقيض شرط ( لو ) فإن التكذيب هو عدم الإيمان فهو قياس استثنائي .
وجملة : { فأخذناهم } متسببة على جملة : { ولكن كذبوا } وهو مثل نتيجة القياس ، لأنه مساوي نقيضِ التالي ، لأن أخذهم بما كسبوا فيه عدم فتح البركات عليهم .
وتقدم معنى الأخذ آنفاً في قوله تعالى : { فأخذناهم بغتة } [ الأعراف : 95 ] ، والمراد به أخذ الاستئصال .