[ يقول تعالى : { كُلا } أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة ، نمدهم فيما هم فيه { مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } أي : هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور ، فيعطي كلا ما يستحقه من الشقاوة والسعادة ولا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ، ولا مغير لما أراد ؛ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } أي : ممنوعا ، أي : لا يمنعه أحد ولا يرده راد .
قال قتادة : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } أي : منقوصًا .
القول في تأويل قوله تعالى { انظُرْ كَيْفَ فَضّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَلَلاَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انظر يا محمد بعين قلبك إلى هذين الفريقين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة ، وإياها يطلب ، ولها يعمل والاَخر الذي يريد الدار الاَخرة ، ولها يسعى موقنا بثواب الله على سعيه ، كيف فضّلنا أحد الفريقين على الاَخر ، بأن بصرّنا هذا رشده ، وهديناه للسبيل التي هي أقوم ، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد ، وخذلنا هذا الاَخر ، فأضللناه عن طريق الحقّ ، وأغشينا بصره عن سبيل الرشد وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ يقول : وفريق مريد الاَخرة أكبر في الدار الاَخرة درجات بعضهم على بعض لتفاوت منازلهم بأعمالهم في الجنة وأكبر تفضيلاً بتفضيل الله بعضهم على بعض من هؤلاء الفريق الاَخرين في الدنيا فيما بسطنا لهم فيها . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله انْظُرْ كَيْفَ فَضّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعضٍ : أي في الدنيا وَللاَخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْصِيلاً وإن للمؤمنين في الجنة منازل ، وإن لهم فضائل بأعمالهم . وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ بينَ أعْلَى أهْلِ الجَنّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنّجْمِ يُرَى فِي مَشارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبها » .
وقوله { كلاًّ نمد } الآية نصب { كلاًّ } ب { نمد } ، وأمددت الشيء إذا زدت فيه من غيره نوعه ، ومددته إذا زدت فيه من نوعه ، وقيل هما بمعنى واحد ، يقال مد وأمد . و { هؤلاء } بدل من قوله { كلاًّ } فهو في موضع نصب ، وقوله { من عطاء ربك } يحتمل أن يريد من الطاعات لمريدي الآخرة والمعاصي لمريدي العاجلة ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس ، ويحتمل أن يريد ب «العطاء » رزق الدنيا ، وهذا تأويل الحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أي إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين ومريدي العاجلة من الكافرين ويمدهم بعطائه منها وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة ، ويتناسب هذا المعنى مع قوله { وما كان عطاء ربك محظوراً } ، أي إن رزقه في الدنيا لا يضيق عن مؤمن ولا كافر ، وقلما تصلح هذه العبارة لمن يمد بالمعاصي التي توبقه ، و «المحظور » الممنوع .
تذييل لآية { من كان يريد العاجلة إلى آخرها } [ الإسراء : 18 ] .
وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالى لم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة . وذلك مصداق قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] وقوله فيما رواه عنه نبيُّه إن رحمتي سبقت غضبي .
وتنوين { كلا } تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كل الفريقين ، وهو منصوب على المفعولية لفعل { نمد } .
وقوله : { هؤلاء وهؤلاء } بدل من قوله : { كلا } بدل مفصل من مجمل .
ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي صلى الله عليه وسلم « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » . والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى .
والإشارة ب { هؤلاء } في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة . والأصل أن يكون المذكور أولَ عائداً إلى الأول إلا إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده . وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس :
ولا يقيم على ضَيم يراد به *** إلا الأذلان عير الحي والوَتد
هذا على الخسْف مربوط برُمته *** وذا يشج فلا يرثي له أحد
والإمداد : استرسال العطاء وتعاقبه . وجعل الجديد منه مدداً للسالف بحيث لا ينقطع .
وجملة { وما كان عطاء ربك محظوراً } اعتراض أو تذييل ، وعطاء ربك جنس العطاء ، والمحظور : الممنوع ، أي ما كان ممنوعاً بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه .