وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها ، وانقطعت أنهارها ، واندرست أثارها ، وزال نعيمها ، هذه حقيقة الدنيا ، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين ، وحذرنا من الاغترار بها ، ورغبنا في دار يدوم نعيمها ، ويسعد مقيمها ، كل ذلك رحمة بنا ، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها ، من نظر إلى ظاهر الدنيا ، دون باطنها ، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم ، وتمتعوا بها تمتع السوائم ، لا ينظرون في حق ربهم ، ولا يهتمون لمعرفته ، بل همهم تناول الشهوات ، من أي وجه حصلت ، وعلى أي حالة اتفقت ، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت ، قلق لخراب ذاته ، وفوات لذاته ، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات .
وأما من نظر إلى باطن الدنيا ، وعلم المقصود منها ومنه ، فإنه يتناول منها ، ما يستعين به على ما خلق له ، وانتهز الفرصة في عمره الشريف ، فجعل الدنيا منزل عبور ، لا محل حبور ، وشقة سفر ، لا منزل إقامة ، فبذل جهده في معرفة ربه ، وتنفيذ أوامره ، وإحسان العمل ، فهذا بأحسن المنازل عند الله ، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم ، وسرور وتكريم ، فنظر إلى باطن الدنيا ، حين نظر المغتر إلى ظاهرها ، وعمل لآخرته ، حين عمل البطال لدنياه ، فشتان ما بين الفريقين ، وما أبعد الفرق بين الطائفتين "
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها ، وفراغها وانقضائها ، وذهابها وخرابها ، فقال : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أي : وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } : لا يُنْبِت ولا ينتفع به ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد . وقال مجاهد : { صَعِيدًا جُرُزًا } بلقعًا .
وقال قتادة : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
وقال ابن زيد : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ } [ السجدة : 27 ]{[17979]} .
وقال محمد بن إسحاق : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يعني الأرض ، إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإلى الله{[17980]} فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى .
وقوله : وَإنّا لَجاعلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرزا يقول عزّ ذكره : وإنما لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة ، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس . وقد قيل : إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع : المستوي بوجه الأرض ، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، وبمعنى الجرز ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وإنّا لَجَاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرُزا يقول : يهلك كلّ شيء عليها ويبيد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد صَعِيدا جُرُزا قال : بلقعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنّا لَجاعلُونَ ما عَلَيْها صَعيدا جُرُزا والصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سَلَمة ، عن ابن إسحاق وَإنّا لَجَاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدا جُرُزا يعني : الأرض إن ما عليها لفانٍ وبائد ، وإن المرجع لإليّ ، فلا تأس ، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : صَعِيدا جُزُرا قال : الجزر : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى أنه يقول : أوَ لَمْ يَرَوْا أنّا نَسُوقُ الماءَ إلى الأرْضِ الجُرُزِ فنُخْرِجُ بِهِ زَرْعا قال : والجرز : لا شيء فيها ، لا نبات ولا منفعة . والصعيد : المستوي . وقرأ : لاَ تَرَى فِيها عِوَجا وَلا أمْتا قال : مستوية : يقال : جُرِزت الأرض فهي مجروزة ، وجرزها الجراد والنعم ، وأرَضُون أَجْراز : إذا كانت لا شيء فيها . ويقال للسنة المجدبة : جُرُز وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلّة أمطارها قال الراجز :
*** قَدْ جَرَفَتْهُنّ السّنُونُ الأجْرَازْ ***
يقال : أجرز القوم : إذا صارت أرضهم جُرُزا ، وجَرَزوا هم أرضهم : إذا أكلوا نباتها كله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.