قوله تعالى : { قال } لهم يعقوب ، { إني ليحزنني أن تذهبوا به } ، أي : يحزنني ذهابكم به ، والحزن هاهنا : ألم القلب بفراق المحبوب ، { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } ، وذلك أن يعقوب كان رأى في المنام أن ذئبا شد على يوسف ، فكان يخاف من ذلك ، فمن ثم قال : أخاف أن يأكله الذئب ، قرأ ابن كثير وإسماعيل وقالون عن نافع وعاصم وابن عامر : الذئب بالهمزة ، وكذلك أبو عمرو إذا لم يدرج ، وحمزة في الوقف ، الذيب بترك الهمزة ، الوجه في الهمز أنه هو الأصل لأنه من قولهم : الذيب بترك الهمزة ، الوجه في الهمز أنه هو الأصل لأنه من قولهم : تذأبت الريح إذا جاءت من كل وجه ، ويجمع الذئب أذوبا وذئابا ، بالهمز ، والوجه في ترك الهمز : أن الهمزة خففت فقلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها .
فأجابهم بقوله : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ْ } أي : مجرد ذهابكم به يحزنني ويشق علي ، لأنني لا أقدر على فراقه ، ولو مدة يسيرة ، فهذا مانع من إرساله { وَ ْ } مانع ثان ، وهو أني { أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ْ } أي : في حال غفلتكم عنه ، لأنه صغير لا يمتنع من الذئب .
وردا على العتاب الاستنكاري الأول جعل يعقوب ينفي - بطريق غير مباشر - أنه لا يأمنهم عليه ، ويعلل احتجازه معه بقلة صبره على فراقه وخوفه عليه من الذئاب :
( قال : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) . .
( إني ليحزنني أن تذهبوا به ) .
إنني لا أطيق فراقه . . ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها . أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم ، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة .
( وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ) . .
ولا بد أنهم وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه ، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة ، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب !
{ قال إني ليحزنني أن تذهبوا به } لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه . { وأخاف أن يأكله الذئب } لأن الأرض كانت مذابة . وقيل رأى في المنام أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره عليه ، وقد همزها على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون ، وفي رواية اليزيدي وأبو عمرو وقفا وعاصم وابن عامر وحمزة درجا واشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة . { وأنتم عنه غافلون } لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه .
فصل جملة { قال } جار على طريقة المحاورة .
أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف عليه السّلام معهم إلى الرّيف بأنّه يحزنه لبعده عنه أيّاماً ، وبأنّه يخشى عليه الذئاب ، إذ كان يوسف عليه السّلام حينئذٍ غلاماً ، وكان قد رُبّيَ في دَعَة فلم يكن مَرناً بمقاومة الوحوش ، والذئابُ تَجْتَرىءُ على الذي تحسّ منه ضعفاً في دفاعها . قال الرّبيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة :
والذّئب أخشاه إن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا
فقلت له لمّا تكشّر ضاحكاً *** وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني *** نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فذئاب بادية الشّام كانت أشدّ خبثاً من بقية الذئاب ، ولعلّها كانت كذئاب بلاد الرُّوس . والعرب يقولون : إنّ الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتّى عضّ الإنسان وأسال دمه أنّه يضرى حين يرى الدمّ فيستأسد على الإنسان ، قال :
فكنت كذئب السّوء حين رأى دماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم
وقد يتجمّع سرب من الذئاب فتكون أشدّ خطراً على الواحد من الناس والصغير .
والتعريف في { الذئب } تعريف الحقيقة والطبيعة ، ويسمّى تعريف الجنس . وهو هنا مراد به غير معيّن من نوع الذئب أو جماعة منه ، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذّوات لا من أحوال الجنس ، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون تعيين . ونظيره قوله تعالى : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [ سورة الجمعة : 5 ] أي فرد من الحمير غير معيّن ، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأنّ الجنس لا يحمل . ومنه قولهم : ( ادخل السوق ) إذا أردت فرداً من الأسواق غير معين ، وقولك : ادخل ، قرينة على ما ذكر . وهذا التّعريف شبيه بالنّكرة في المعنى إلاّ أنّه مراد به فرد من الجنس . وقريب من هذا التّعريف باللاّم التعريف بعلم الجنس ، والفرق بين هذه اللام وبين المنكّر كالفرق بين علم الجنس والنكرة .
فالمعنى : أخاف أن يأكله الذّئب ، أي يَقتله فيأكل منه فإنّكم تبعدون عنه ، لمَا يعلم من إمعانهم في اللّعب والشّغل باللهو والمسابقة ، فتجتري الذئاب على يوسف عليه السّلام .
والذئب : حيوان من الفصيلة الكلبيّة ، وهو كلب بَرّي وحشيّ . من خلقه الاحتيال والنفورُ . وهو يفترس الغنم . وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربّما مزّقه .
وإنّما ذكر يعقوب عليه السّلام أنّ ذهابهم به غَدا يحدث به حزناً مستقبلاً ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأنّ شأن الابن البار أن يتّقي ما يحزن أباه .
وتأكيد الجملة بحرف التّأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أنّ حزنه لفراقه ثابت ، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك ، إذْ رأى إلحاحهم . ويسري التّأكيد إلى جملة { وأخاف أن يأكله الذئب } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون}، لا تشعرون به، وكانت أرضا مذئبة، فمن ثم قال يعقوب: إني أخاف أن يأكله الذئب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال يعقوب لهم: {إني ليحزنني أن تذهبوا به}، معكم إلى الصحراء، مخافة عليه من الذئب أن يأكله، {وأنتم عنه غافلون}: لا تشعرون...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى حكاية عن يعقوب أنه قال حين طلب إخوة يوسف إنفاذ يوسف معهم، واحتيالهم في ذلك، وأشفق من ذلك، قال:"إني ليحزنني" أي يؤلم قلبي... والحزن: ألم القلب بفراق المحب، ويعظم إذا كان فراقه إلى ما يبغَض، "أن تذهبوا به "أي ليحزنني إذهابكم به، والذهاب والمرور والانطلاق نظائر. وبين أنه يخاف عليه الذئب أن يأكله لأن الذئاب كانت ضارية في ذلك الوقت. والذئب سبع معروف... وقوله: "وانتم عنه غافلون" جملة في موضع الحال وتقديره أخاف أن يأكله الذئب في حال كونكم ساهين عنه، والخوف والفزع والقلق نظائر ونقيضه الأمن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يَحْزُنني أن تذهبوا به لأني لا أصْبِر عن رؤيته، ولا أطيق على فُرقتِه... هذا إذا كان الحالُ سلامته فكيف ومع هذا أخاف أن يأكله الذئب؟! ويقال: لما خاف عليه من الذئب امتُحِنَ بحديث الذئب... ويقال لمَّا جرى على لسان يعقوب -عليه السلام- من حديث الذئب، صار كالتلقين لهم، ولو لم يسمعوه ما اهْتَدَوْا إلى الذئب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما: أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أوقلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: ماذا قال لهم؟ فقيل: {قال} ما زاد صدورهم توغراً لأن ما قالوه له هو بحيث يسر به لسرور يوسف عليه الصلاة والسلام به {إني ليحزنني} أي حزناً ظاهراً محققاً -بما أشار إليه إظهار النون وإثباته لام الابتداء {أن تذهبوا به} أي يتجدد الذهاب به مطلقاً- لأني لا أطيق فراقه -ولا لحظة، وفتح لهم باباً يحتجون به عند فعل المراد بقوله جامعاً بين مشقتي الباطن، والبلاء- كما قالوا -موكل بالمنطق: {وأخاف} أي إذا ذهبتم به واشتغلتم بما ذكرتم {أن يأكله الذئب} أي هذا النوع كأنه كان كثيراً بأرضهم {وأنتم عنه} أي خاصة {غافلون} أي عريقون في الغفلة لإقبالكم على ما يهمكم من مصالح الرعي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنني لا أطيق فراقه. ولا بد أن هذه هاجت أحقادهم وضاعفتها أن يبلغ حبه له درجة الحزن لفراقه ولو لبعض يوم، وهو ذاهب كما قالوا له للنشاط والمسرة... (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون). ولا بد أنهم وجدوا فيها عذرا كانوا يبحثون عنه، أو كان الحقد الهائج أعماهم فلم يفكروا ماذا يقولون لأبيهم بعد فعلتهم المنكرة، حتى لقنهم أبوهم هذا الجواب!...
وكلام الأب هنا لابد أن يغيظهم فهو دليل المحبة الفائقة إلى الدرجة التي يخاف فيها من فراق يوسف لقلة صبره عنه، وشدة رعايته له؛ ثم جاء لهم بالحكاية الأخرى، وهي: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} وقال بعض الناس: لقد علمهم يعقوب الكذبة؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها. ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لحظا؛ فلم يقل:"أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون" بل قال: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} وهذا ليربي فيهم مواجيد الأخوة التي تفترض ألا يتصرفوا مع أخيهم بشر؛ ولا أن يتصرف غيرهم معه بشر إلا إذا غفلوا عن أخيهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكن يعقوب دون أن يتهم إِخوة يوسف بسوء القصد أظهر تردّده في إِرسال يوسف لأمرين:
الأوّل: أنه سيبتعد عنه فيحزن عليه،
والثاني: ربّما يوجد خارج المدينة بعض الذئاب المفترسة فتأكله، فاعتذر إِليهم و
(قال إِني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون). وهذه المسألة طبيعية، حيث قد يبتعد إِخوة يوسف عنه فيغفلون عن أمره، فيأتي إِليه الذئب فيأكله. وبديهي أنّ الإِخوة لم يكن لهم جواب بالنسبة للأمر الأوّل الذي أشار إِليه أبوهم يعقوب، لأنّ الحزن والاغتمام على فراق يوسف لم يكن شيئاً عاديّاً حتى يعوّض عنه، وربّما كان هذا التعبير مثيراً لنار الحسَد في إِخوة يوسف أكثر. ومن جهة أُخرى فإن هذا الموضوع الذي أشار إِليه يعقوب، وهو حزنه على ابتعاد يوسف عنه يمكن ردّه، وهو لا يحتاج إلى بيان، لأنّ الولد لابدّ له من الابتعاد عن أبيه من أجل أن ينمو ويرشد، وإِذا أريد له أن يكون كنبات «النّورس» بحيث يبقى تحت ظل شجرة «وجود الأب» فإنّه سوف يبقى عالة عليه فلابدّ من هذا الابتعاد والانفصال حتى يتكامل ولده، فاليوم تنزّه وغداً اجتهاد ومثابرة لتحصيل العلم، وبعد غد عمل وسعي للحياة، وأخيراً فإِنّ الانفصال لابدّ منه.