قوله تعالى : { وما تنقم منا } ، أي : ما تكره منا ، وقال الضحاك وغيره : وما تطعن علينا ، وقال عطاء : مالنا عندك من ذنب تعذبنا عليه .
قوله تعالى : { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } ثم فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا : قوله تعالى : { ربنا أفرغ } اصبب .
قوله تعالى : { علينا صبراً وتوفنا مسلمين } ، ذكر الكلبي : أن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم ، وذكر غيره : أنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : { لا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] .
{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا } أي : وما تعيب منا على إنكارك علينا وتوعدك لنا ؟ فليس لنا ذنب { إِلا أَنْ آمَنَّا } ب[ آيَاتِ ] ربنا [ لما جاءتنا ]{[324]} فإن كان هذا ذنبا يعاب عليه ، ويستحق صاحبه العقوبة ، فهو ذنبنا .
ثم دعوا اللّه أن يثبتهم ويصبرهم فقالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ } أي : أفض { عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عظيما ، كما يدل عليه التنكير ، لأن هذه محنة عظيمة ، تؤدي إلى ذهاب النفس ، فيحتاج فيها من الصبر إلى شيء كثير ، ليثبت الفؤاد ، ويطمئن المؤمن على إيمانه ، ويزول عنه الانزعاج الكثير .
{ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : منقادين لأمرك ، متبعين لرسولك ، والظاهر أنه أوقع بهم ما توعدهم عليه ، وأن اللّه تعالى ثبتهم على الإيمان .
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت . . وأنها معركة العقيدة في الصميم . . لا يداهن ولا يناور . . ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة ، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة :
( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) . .
والذي يعرف أين يتجه في المعركة ، وإلى من يتجه ؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية ، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام :
( ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين ) . .
ويقف الطغيان عاجزاً أمام الإيمان ، وأمام الوعي ، وأمام الاطمئنان . . يقف الطغيان عاجزاً أمام القلوب التي خيل إليه أنه يملك الولاية عليها كما يملك الولاية على الرقاب ! ويملك التصرف فيها كما يملك التصرف في الأجسام . فإذا هي مستعصية عليه ، لأنها من أمر الله ، لا يملك أمرها إلا الله . . وماذا يملك الطغيان إذارغبت القلوب في جوار الله ؟ وماذا يملك الجبروت إذا اعتصمت القلوب بالله ؟ وماذا يملك السلطان إذا رغبت القلوب عما يملك السلطان !
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية . هذا الذي كان بين فرعون وملئه ، والمؤمنين من السحرة . . السابقين . .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بانتصار العقيدة على الحياة . وانتصار العزيمة على الألم . وانتصار " الإنسان " على " الشيطان " !
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية . بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية . فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة . والاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح . ومتى عجزت القوة المادية عن استذلال القلوب فقد ولدت الحرية الحقيقية في هذه القلوب .
إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بإعلان إفلاس المادية ! فهذه القلة التي كانت منذ لحظة تسأل فرعون الأجر على الفوز ، وتمنى بالقرب من السلطان . . هي ذاتها التي تستعلي على فرعون ؛ وتستهين بالتهديد والوعيد ، وتُقبل صابرة محتسبة على التنكيل والتصليب . وما تغير في حياتها شيء ، ولا تغير من حولها شيء - في عالم المادة - إنما وقعت اللمسة الخفية التي تسلك الكوكب المفرد في الدورة الكبرى . وتجمع الذرة التائهة إلى المحور الثابت ، وتصل الفرد الفاني بقوة الأزل والأبد . . وقعت اللمسة التي تحوّل الإبرة ، فيلتقط القلب إيقاعات القدرة ، ويتسمع الضمير أصداء الهداية ، وتتلقى البصيرة إشراقات النور . . وقعت اللمسة التي لا تنتظر أي تغيير في الواقع المادي ؛ ولكنها هي تغير الواقع المادي ؛ وترفع " الإنسان " في عالم الواقع إلى الآفاق التي لم يكن يطمح إليها الخيال !
ويذهب التهديد . . ويتلاشى الوعيد . . ويمضي الإيمان في طريقه . لا يتلفت ، ولا يتردد ، ولا يحيد ! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد . . إن روعة الموقف تبلغ ذروتها ؛ وتنتهي إلى غايتها . وعندئذ يتلاقى الجمال الفني في العرض ؛ مع الهدف النفسي للقصة ، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني ، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن .
{ وما تنقم منا } وما تنكر منا . { إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا } وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك ، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا : { ربنا أفرغ علينا صبرا } أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء ، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون . { وتوفّنا مسلمين } ثابتين على الإسلام . قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به . وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى : { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } .
وقرأ جمهور الناس «تنقِم » بكسر القاف ، وقرأ أبو حيوة وأبو البرهشم وابن أبي عبلة ، والحسن بن أبي الحسن «تنقَم » بفتحها وهم لغتان ، قال أبو حاتم : الوحه في القراءة كسر القاف ، وكل العلماء أنشد بيت ابن الرقيات :
ما نقَموا من بني أمية . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . .
بفتح القاف ومعناه وما تعد علينا وتؤاخذنا به ؟ وقولهم { أفرغ علينا صبراً } معناه عمنا كما يعم الماء من أفرغ عليه ، وهي هنا مستعارة ، وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل ، وحكى النقاش عن مقاتل أنه قال : مكث موسى بمصر بعد إيمان السحرة عاماً أو نحوه يريهم الآيات .
النّقْم : بسكون القاف وبفتحها ، الإنكار على الفعل ، وكراهة صدوره وحقد على فاعله ، ويكون باللسان وبالعمل ، وفعله من باب ضرب وتعب ، والأول أفصح ولذلك قرأه الجميع { ومَا تنقمُ } بكسر القاف .
والاستثناء في قولهم : { إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } متصل ، لأن الإيمان ينقمه فرعون عليهم ، فليس في الكلام تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
وجملة { ربنا أفرغ علينا صبراً } من تمام كلامهم ، وهي انتقال من خطابهم فرعون إلى التوجه إلى دعاء الله تعالى ، ولذلك فصلت عن الجملة التي قبلها .
ومعنى قوله : { ربنا أفرغ علينا صبراً } اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون .
ولما كان ذلك الوعيد مما لا تطيقه النفوس سألوا الله أن يجعل لنفوسهم صبراً قوياً ، يفوق المتعارف ، فشبه الصبر بماء تشبيه المعقول بالمحسوس ، على طريقة الاستعارة المكنية ، وشبه خلقُه في نفوسهم بإفراغ الماء من الإناء على طريقة التخييلية ، فإن الإفراغ صبّ جميع ما في الإناء ، والمقصود من ذلك الكناية عن قوة الصبر لأن إفراغ الإناء يستلزم أنه لم يبق فيه شيء مما حواه ، فاشتملت هذه الجملة على مكنية وتخييلية وكناية .
وتقدم نظيره في قوله تعالى : { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } في سورة البقرة ( 250 ) .
ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة ، ولا مبالين بوعيد فرعون ، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة ، والفوزَ بما عند الله ، وقد انخذل بذلك فرعون ، وذهب وعيده باطلاً ، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة .
والقرآن لم يتعرض هنا ، ولا في سورة الشعراء ، ولا في سورة طه ، للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون لأن غرض القصص القرآنية هو الاعتبار بمحل العبرة وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة وتصلبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنّة .
وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث كما قال في سورة النازعات ( 26 ) : { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية .
والظاهر أن فرعون أفحم لما رأى قلة مبالاتهم بوعيده فلم يُرد جواباً .
وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام .
والظاهر أن { كلمة مسلمين } تعبير القرآن عن دعائهم بأن يتوفاهم الله على حالة الصديقين ، وهي التي يجمعُ لفظُ الإسلام تفصيلها ، وقد تقدم شرح معنى كون الإسلام وهو دين الأنبياء عند قوله : { فلا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون } في سورة البقرة ( 132 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما تَنْقِمُ مِنّا إلاّ أنْ آمَنّا بآياتِ رَبّنا" يقول: ما تنكر منا يا فرعون وما تجد علينا، إلا من أجل "أنا آمنا": أي صدّقنا "بآيات ربنا"، يقول: بحجج ربنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت، ولا أحد سوى الله، الذي له ملك السموات والأرض. ثم فزعوا إلى الله، بمسألته الصبر على عذاب فرعون، وقبض أرواحهم على الإسلام، فقالوا: "رَبّنا أفْرغْ عَلَيْنا صَبْرا "يعنون بقولهم: أفرغ: أنزل علينا حبسا يحبسنا عن الكفر بك عند تعذيب فرعون إيانا. "وَتَوَفّنا مُسْلِمِينَ" يقول: واقبضنا إليك على الإسلام، دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لا على الشرك بك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} قيل: لوجهين: قيل: قوله تعالى: {وما تنقم منا} أي وما تعيب علينا، وتطعن الإيمان بما كان منّا من الإيمان {بآيات ربنا لما جاءتنا} وهو ما جاءهم من الآيات. وقيل: وما تعاقبنا، وما تنتقم {منّا إلا أن آمنا بآيات ربنا} وكان الحق علينا، وعليك أن تؤمن بها كما آمنا نحن. وقوله تعالى: {ربنا أفرغ علينا صبرا} قوله تعالى: {أفرغ} قيل: أنزل {علينا صبرا}. وقيل أصبب {علينا صبرا} وهو كله واحد. ثم يحتمل سؤالهم الصبر لما لعله إذا فعل بهم بما أوعد من العقوبات لم يقدروا على التصبّر، فيتركوا الإيمان. لذلك سألوا ربهم الصبر على ذلك ليثبتوا على الإيمان به. [وقوله تعالى]: {وتوفّنا مسلمين} سألوا ربهم أيضا التوفّي على الإسلام. وهكذا كان دعاء الأنبياء كما قال يوسف: {توفّني مسلما} الآية: [يوسف: 101] وكذلك كان أوصى إبراهيم بنيه حين قال: {إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [البقرة: 132] وهكذا الواجب على كل مؤمن ومسلم أن يتضرع إلى الله في كل وقت، ويبتهل إليه في كل ساعة لئلا يسلب الإيمان لكسب يكتسبه؛ إذ الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم، مع عصمتهم كانوا يخافون ذلك، ليعلم أن العصمة لا تسقط الخوف، ولا تؤمن من الزلات. وقوله تعالى: {ربنا أفرغ علينا صبرا} دلالة على أنهم علموا أنهم إذا أفرغ عليهم الصبر صبروا؛ إذ لو لم يعلموا ذلك لم يكن لسؤالهم الصبر معنى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والنقمة: الأخذ بالعقوبة، وقوله تعالى "ربنا أفرغ علينا صبرا "حكاية عن قول هؤلاء السحرة الذين آمنوا، وأنهم بعد أن قالوا لفرعون ما قالوه، سألوا الله تعالى أن يفرغ عليهم صبرا، ومعناه أن يفعل بهم من اللطف ما يصبرون معه على عذاب فرعون ويتشجعوا عليه، ولا يفزعوا منه. والصبر هو: حبس النفس عن إظهار الجزع، والصبر على الحق عز، كما أن الصبر على الباطل ذل. والصبر في الجملة محمود، قال الله تعالى "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لما عَمِلُوا لله، وأوذوا في الله، صدقوا القصد إلى الله، وطلبوا المعونة من قِبَلِ الله، كذا سُنّةُ مَنْ كان لله أن يكون كلُّه على الله.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {وما تنقم منا}، أي: ما تكره منا، وقال الضحاك وغيره: وما تطعن علينا، وقال عطاء: مالنا عندك من ذنب تعذبنا عليه..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا} وما تعيب منا إلاّ الإيمان بآيات الله، أرادوا: وما تعيب منا إلاّ ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان... {أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا}: هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغاً... أو صبّ علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرة لهم. {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على الإسلام.
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه، وهو قولهم لفرعون: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم، بل يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل وفي الآية فوائد: الفائدة الأولى: {أفرغ علينا صبرا} أكمل من قوله: أنزل علينا صبرا، لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية، فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه. والفائدة الثانية: أن قوله {صبرا} مذكور بصيغة التنكير، وذلك يدل على الكمال والتمام، أي صبرا كاملا تاما... والفائدة الثالثة: إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم، ثم إنهم طلبوه من الله تعالى، وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
سألوا الموت على الإسلام وهو الانقياد إلى دين الله وما أمر به.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا}... يقال نقمت الأمر أنكرته، أي لست تعيب علينا وتنكر منا {إِلا أَنْ آمَنَّا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار، بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ، ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ، مفوّضين الأمر إليه، طالبين منه عزّ وجلّ أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} الإفراغ: الصبّ، أي اصببه علينا حتى يفيض ويغمرنا. طلبوا أبلغ أنواع الصبر، استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدوّ الله، وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق، وثبوت القدم على الإيمان، ثم قالوا: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي توفنا إليك حال ثبوتنا على الإسلام، غير محرّفين، ولا مبدّلين، ولا مفتونين. ولقد كان ما هم عليه من السحر، والمهارة في علمه، مع كونه شرّاً محضاً، سبباً للفوز بالسعادة، لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشرّ إلى الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون، ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان، وإذا كانت المهارة في علم الشرّ قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا، وثبت أقدامنا على الحق، وأفرغ علينا سجال الصبر، وتوفنا مسلمين.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي ربنا هب لنا صبرا واسعا تفيضه وتفرغه علينا إفراغا بتثبيتك إيانا على الإيمان وتأييدنا بروحك فيه كما يفرغ الماء من القرب، حتى لا يبقى في قلوبنا شيئا من خوف غيرك، ولا من الرجاء فيما سوى فضلك ونوالك. وتوفنا إليك حال كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك مستسلمين لقضائك، غير مفتونين بتهديد فرعون، وغير مطيعين له في قول ولا فعل. جمعوا بدعائهم هذا بين كمال الإيمان والإسلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والذي يدرك طبيعة المعركة بينه وبين الطاغوت.. وأنها معركة العقيدة في الصميم.. لا يداهن ولا يناور.. ولا يرجو الصفح والعفو من عدو لن يقبل منه إلا ترك العقيدة، لأنه إنما يحاربه ويطارده على العقيدة: (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا).. والذي يعرف أين يتجه في المعركة، وإلى من يتجه؛ لا يطلب من خصمه السلامة والعافية، إنما يطلب من ربه الصبر على الفتنة والوفاة على الإسلام ويذهب التهديد.. ويتلاشى الوعيد.. ويمضي الإيمان في طريقه. لا يتلفت، ولا يتردد، ولا يحيد! ويسدل السياق القرآني الستار على المشهد عند هذا الحد ولا يزيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
النّقْم: بسكون القاف وبفتحها، الإنكار على الفعل، وكراهة صدوره وحقد على فاعله، ويكون باللسان وبالعمل..
ومعنى قوله: {ربنا أفرغ علينا صبراً} اجعل لنا طاقة لتحمل ما توعدنا به فرعون. ودعوا لأنفسهم بالوفاة على الإسلام إيذاناً بأنهم غير راغبين في الحياة، ولا مبالين بوعيد فرعون، وأن همتهم لا ترجو إلاّ النجاة في الآخرة، والفوزَ بما عند الله، وقد انخذل بذلك فرعون، وذهب وعيده باطلاً، ولعله لم يحقق ما توعدهم به لأن الله أكرمهم فنجاهم من خزي الدنيا كما نجاهم من عذاب الآخرة. وذكرُهم الإسلام في دعائهم يدل على أن الله ألهمهم حقيقته التي كان عليها النبيّون والصديقون من عهد إبراهيم عليه السلام.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 125]
غير أن سحرة فرعون الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم وأدركوا البون الشاسع بين ما كانوا عليه من معتقدات الشرك والوثنية، وعقيدة الإيمان والتوحيد التي تلقوها عن موسى غضة طرية، لم يفت في عضدهم تهديد ولا وعيد، ولا صلب ولا تشريد فأعلنوها صيحة مدوية، أمام فرعون الطاغية {قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن – آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} كأنهم يلوحون بذلك إلى بطلان التهمة المزورة التي اتهمهم بها زورا وبهتانا، لمجرد القضاء عليهم، والتخلص منهم، باسم حماية الدولة من المتآمرين عليها والكائدين لها. ثم اتجهوا إلى الحق سبحاه وتعالى الذي أشرق نور الإيمان به في قلوبهم ضارعين خاشعين {ربنا أفرغ علينا صبرا} أي صبرا عظيما نتحمل به عدوان فرعون وملإه، وما يهددنا به من قطع وصلب. {وتوفنا مسلمين} وكأنهم في هذا المقام لم يعد يهمهم من الحياة إلا أمر واحد، هو أن يختم الله لهم بالخاتمة الحسنى، وهي الوفاة على ملة الإسلام، التي هي ملة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهكذا بعدما كانوا في أول النهار سحرة كفرة، أصبحوا في آخره شهداء بررة، كما صرح بذلك جماعة من مفسري السلف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} حتى لا نضعف في حالة شدّة، ولا نهتزّ في موقف زلزال، بل تبقى لنا قوّة الإيمان حيَّةً نابضةً حتى نلاقيك في إسلام القلب والوجه واليد واللسان. إنه الموقف الرائع والنموذج العظيم للإيمان الصامد أمام الكفر الطاغي في أروع صورةٍ للصراع الدامي بين قوى الكفر والطغيان، وبين قوى الحق والإيمان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون، ولإيضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد، واثبات براءتهم من أي ذنب، قالوا: إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا (وما تنقم منّا إلاّ أن آمنا بآيات ربّنا لما جاءتنا). يعني أنّنا لسنا مشاغبين، ولا متآمرين، ولا متواطئين ضدك، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد، بل نحن عندما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير. وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأُولى أنّهم لا يخافون أي تهديد، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة.ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه، وطلبوا منه الصبر والاستقامة، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: (ربّنا افرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين).