65- ألا تنظر - أيها العاقل - إلى مظاهر قدرة اللَّه فتراه ييسر للناس جميعاً الانتفاع بالأرض وما فيها ، وهيَّأ لهم البحر تسير فيه السفن بمشيئته ، وأمسك الكواكب في الفضاء بقدرته حتى لا يختل نظامها ، أو تقع على الأرض إلا إذا اقتضت إرادته ذلك ، إن اللَّه سبحانه شديد الرأفة والرحمة بعباده فيهيئ كل سبل الحياة الطيبة لهم ، كيف بعد ذلك كله لا يخلصون في شكره وعبادته ؟ {[136]} .
{ 65 - 66 } { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ }
أي : ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة ، وأياديه الواسعة ، و { أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ } من حيوانات ، ونبات ، وجمادات ، فجميع ما في الأرض ، مسخر لبني آدم ، حيواناتها ، لركوبه ، وحمله ، وأعماله ، وأكله ، وأنواع انتفاعه ، وأشجارها ، وثمارها ، يقتاتها ، وقد سلط على غرسها واستغلالها ، ومعادنها ، يستخرجها ، وينتفع بها ، { وَالْفُلْكِ } أي : وسخر لكم الفلك ، وهي السفن { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } تحملكم ، وتحمل تجاراتكم ، وتوصلكم من محل إلى محل ، وتستخرجون من البحر حلية تلبسونها ، ومن رحمته بكم أنه { يمسك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ } فلولا رحمته وقدرته ، لسقطت السماء على الأرض ، فتلف ما عليها ، وهلك من فيها { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }
{ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أرحم بهم من والديهم ، ومن أنفسهم ، ولهذا يريد لهم الخير ، ويريدون لها الشر والضر ، ومن رحمته ، أن سخر لهم ما سخر من هذه الأشياء .
ويستطرد السياق مرة أخرى إلى استعراض دلائل القدرة المعروضة للناس في كل حين :
( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ، والفلك تجري في البحر بأمره . ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه . إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .
وفي هذه الأرض كم من قوة وكم من ثروة سخرها الله لهذا الإنسان ؛ وهو غافل عن يد الله ونعمته التي يتقلب فيها بالليل والنهار !
لقد سخر الله ما في الأرض لهذا الإنسان ، فجعل نواميسها موافقة لفطرته وطاقاته . ولو اختلفت فطرة الإنسان وتركيبه عن نواميس هذه الأرض ما استطاع الحياة عليها ، فضلا على الانتفاع بها وبما فيها . . لو اختلف تركيبه الجسدي عن الدرجة التي يحتمل فيها جو هذه الأرض ، واستنشاق هوائها ، والتغذي بطعامها والارتواء بمائها لما عاش لحظة . ولو اختلفت كثافة بدنه أو كثافة الأرض عما هي عليه ما استقرت قدماه على الأرض ، ولطار في الهواء أو غاص في الثرى . . ولو خلا وجه هذه الأرض من الهواء أو كان هذا الهواء أكثف مما هو أو أخف لاختنق هذا الإنسان أو لعجز عن استنشاق الهواء مادة الحياة ! فتوافق نواميس هذه الأرض وفطرة هذا الإنسان هو الذي سخر الأرض وما فيها لهذا الإنسان . وهو من أمر الله .
ولقد سخر الله له ما في الأرض مما وهبه من طاقات وإدراكات صالحة لاستغلال ثروات هذه الأرض ، وما أودعه الله إياها من ثروات وطاقات ظاهرة وكامنة ؛ يكشف منها الإنسان واحدة بعد واحدة - وكلما احتاج إلى ثروة جديدة فض كنوزا جديدة . وكلما خشي أن ينفذ رصيده من تلك الكنوز تكشف له منها رصيد جديد . . وها هو ذا اليوم لم يستنفد بعد ثروة البترول وسائر الفلزات ثم فتح له كنز الطاقة الذرية والطاقة الإيدروجينية . وإن يكن بعد كالطفل يعبث بالنار فيحرق نفسه بها ويحرق سواه ، إلا حين يهتدي بمنهج الله في الحياة ، فيوجه طاقاتها وثرواتها إلى العمران والبناء ، ويقوم بالخلافة في الأرض كما أرادها الله !
( والفلك تجري في البحر بأمره ) . . فهو الذي خلق النواميس التي تسمح بجريان الفلك في البحر . وعلم الإنسان كيف يهتدي إلى هذه النواميس ، فيسخرها لمصلحته وينتفع بها هذا الانتفاع . ولو اختلفت طبيعة البحر أو طبيعة الفلك . أو لو اختلفت مدارك هذا الإنسان . . ما كان شيء من هذا الذي كان !
( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) . . وهو الذي خلق الكون وفق هذا النظام الذي اختاره له ؛ وحكم فيه تلك النواميس التي تظل بها النجوم والكواكب مرفوعة متباعدة ، لا تسقط ولا يصدم بعضها بعضا . .
وكل تفسير فلكي للنظام الكوني ما يزيد على أنه محاولة لتفسير الناموس المنظم للوضع القائم الذي أنشأه خالق هذا النظام . وإن كان بعضهم ينسى هذه الحقيقة الواضحة ، فيخيل إليه أنه حين يفسر النظام الكوني ينفي يد القدرة عن هذا الكون ويستبعد آثارها ! وهذا وهم عجيب وانحراف في التفكير غريب . فإن الاهتداء إلى تفسير القانون - على فرض صحته والنظريات الفلكية ليست سوى فروض مدروسة لتفسير الظواهر الكونية تصح أو لا تصح ، وتثبت اليوم وتبطل غدا بفرض جديد - لا ينفي وجود واضع القانون . وأثره في إعمال هذا القانون . .
والله سبحانه ( يمسك السماء أن تقع على الأرض )بفعل ذلك الناموس الذي يعمل فيها وهو من صنعه . ( إلا بإذنه )وذلك يوم يعطل الناموس الذي يعمله لحكمة ويعطله كذلك لحكمة .
{ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض } جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم . { والفلك } عطف على { ما } أو على اسم { أن } وقرىء بالرفع على الابتداء . { تجري في البحر بأمره } حال منها أو خبر . { ويمسك السماء أن تقع على الأرض } من أن تقع أو كراهة بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك . { إلا بإذنه } إلا بمشيئته وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها . { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنها أبواب المضار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر أن الله سخر} يعني: ذلك، {لكم ما في الأرض والفلك} يقول: وسخر الفلك، يعني: السفن {تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض} يقول: لئلا تقع على الأرض {إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف} يعني: لرفيق {رحيم} بهم، فيما سخر لهم، وحبس عنهم السماء، فلا تقع عليهم فيهلكوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألم تر أن الله سخر لكم أيها الناس ما في الأرض من الدّوابّ والبهائم، فذلك كله لكم تصرفونه فيما أردتم من حوائجكم. "والفُلْكَ تَجْرِي في البَحْرِ بأمْرِهِ "يقول: وسخر لكم السفن تجري في البحر "بأمره"، يعني بقُدرته، وتذليله إياها لكم كذلك...
"ويمْسِكُ السّماءَ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ" يقول: ويمسك السماء بقدرته كي لا تقع على الأرض إلا بأذنه. ومعنى قوله: "أنْ تَقَعَ": أن لا تقع.
"إنّ اللّهَ بالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ" بمعنى: أنه بهم لذو رأفة ورحمة، فمن رأفته بهم ورحمته لهم أمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وسخر لكم ما وصف في هذه الآية تفضلاً منه عليكم بذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكرهم نعمه ليتأدى بها شكره، لأنه أخبر أنه سخر لهم ما في الأرض من أنواع المنافع ليعلموا أنه لم يخلقهم عبثا ليتركهم سدى؛ لأن من كان خلقه لما ذكر لم يكن خلقه ليكون خلقا متروكا سدى. ويخبر أنه أعطى لهم الأسباب التي بها يصلون إلى منافع الأرض مع شدتها وصلابتها، والأسباب التي بها يصلون إلى منافع البحر، وهي الفلك التي خلقها لهم ليصلوا بها إلى منافع البحر حين خلق الخشب قارة على وجه الماء غير متسربة. وغيره من الأشياء، من طبعها التسفل والتسرب في الماء كالحديد والحجر ونحوهما من الأشياء ليعرفوا فضله ورحمته،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أراد به تسخيرَ الانتفاع بها؛ فما للخَلْقِ به انتفاع ومُيَسَّرٌ له الاستمتاع به فهو كالمُسّخَّرِ له على معنى تمكينه منه، ثم يُرَاعَى فيه الإذنُ؛ فَمَنْ استمتع بشيء على وجه الإباحة والإذن والدعاء إليه والأمر به فذلك إنعامٌ وإِكرامٌ، ومَنْ كان بالعكس فمكْرٌ واستدراج. وأمَّا السفينة.. فإلهامُ العبد بصنعها ووجوه الانتفاع بها؛ بالحَمْل فيها وركوبها فَمِنْ أعظم إحسان الله وإرفاقه بالعبد، ثم ما يحصل بها من قَطْع المسافات البعيدة، والتوصل بها إلى المضارب النائية، والتمكن من وجوه الانتفاع ففي ذلك أعظمُ نعمة، وأكملُ عافية. وجعل الأرضَ قراراً للخَلْقِ من غير أن تميد، وجعل السماءَ بناء من غير وقوع، وجعل فيها من الكواكب ما يحصل به الاهتداء في الظلام، ثم هي زينة السماء -وفي ذلك من الأدلة ما يوجب ثَلَجَ الصدر وبَرْدَ اليقين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بإذنه} يحتمل أن يريد يوم القيامة كأن طيّ السماء ونقض هذه الهيئة كوقوعها، ويحتمل أن يريد بذلك الوعيد لهم في أنه إن أذن في سقوط لكسفها عليهم سقطت.
{ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض} أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها، فلولا أن سخر الله تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة...
{والفلك تجري في البحر بأمره} والأقرب أن المراد وسخر لكم الفلك لتجري في البحر، وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها، فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب...
{ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم} واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه...
{إن الله بالناس لرءوف رحيم} فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذن رؤوف رحيم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان تسخير السلوك في البحر من أعجب العجب، قال: {والفلك} أي وسخرها لكم موسقة بما تريدون من البضائع. ثم بين تسخيرها بقوله: {تجري في البحر} أي العجاج، المتلاطم بالأمواج، بريح طيبة على لطف وتؤدة...
ولما كان إمساكها على وجه الماء مع لطافته عن الغرق أمراً غريباً كإمساك السماء على متن الهواء عن الوقوع، أتبعه قوله: {ويمسك السماء} ثم فسر ذلك بقوله مبدلاً: {أن تقع} أي مع علوها وعظمها وكونها بغير عماد {على الأرض} التي هي تحتها. ولما اقتضى السياق أنه لا بد أن تقع لانحلاله إلى أن يمنع وقوعها لأنها جسم كثيف عظيم، ليس له من طبعه إلا السفول، أشار إلى ذلك بقوله: {إلا بإذنه} أي فيقع إذا أذن في وقوعها حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء. ولما كان هذا الجود الأعظم والتدبير المحكم محض كرم من غير حاجة أصلاً، أشار إليه بقوله: {إن الله} أي الذي له الخلق والأمر. ولما كان الجماد كله متاعاً للحيوان، اقتضى تقديم قوله: {بالناس} أي على ظلمهم {لرؤوف} أي بما يحفظ من سرائرهم عن الزيغ بإرسال الرسل، وإنزال الكتب ونصب المناسك،... (رحيم} بما يثبت لهم عموماً من الدرجات على ما منحهم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية لما تقدم في الفاتحة من أن الرحيم خاص الرحمة بما ترضاه الإلهية...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: ألم تشاهد ببصرك وقلبك نعمة ربك السابغة، وأياديه الواسعة، و {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} من حيوانات، ونبات، وجمادات...
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أرحم بهم من والديهم، ومن أنفسهم، ولهذا يريد لهم الخير، ويريدون لها الشر والضر، ومن رحمته، أن سخر لهم ما سخر من هذه الأشياء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذه الأرض كم من قوة وكم من ثروة سخرها الله لهذا الإنسان؛ وهو غافل عن يد الله ونعمته التي يتقلب فيها بالليل والنهار! لقد سخر الله ما في الأرض لهذا الإنسان، فجعل نواميسها موافقة لفطرته وطاقاته. ولو اختلفت فطرة الإنسان وتركيبه عن نواميس هذه الأرض ما استطاع الحياة عليها، فضلا على الانتفاع بها وبما فيها.. لو اختلف تركيبه الجسدي عن الدرجة التي يحتمل فيها جو هذه الأرض، واستنشاق هوائها، والتغذي بطعامها والارتواء بمائها لما عاش لحظة. ولو اختلفت كثافة بدنه أو كثافة الأرض عما هي عليه ما استقرت قدماه على الأرض، ولطار في الهواء أو غاص في الثرى.. ولو خلا وجه هذه الأرض من الهواء أو كان هذا الهواء أكثف مما هو أو أخف لاختنق هذا الإنسان أو لعجز عن استنشاق الهواء مادة الحياة! فتوافق نواميس هذه الأرض وفطرة هذا الإنسان هو الذي سخر الأرض وما فيها لهذا الإنسان. وهو من أمر الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتسخير: تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل، والبقر، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يُعذّر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعَجل، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحْصَى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير...
{الفلك} وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغَرق...
وقوله {بأمره} هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحاً لحملها،... ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرْضية وحطْمِها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سُنن ونُظم تمنع من تسلط بعضها على بعض،... فالله يُمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء، ويمسك ما فيها من القُوى كالمطر والبرَد والثلج والصواعق من الوقوع على الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب...
هذه الآية امتداد للآية السابقة، فما في السماء وما في الأرض ملك له سبحانه لكنه سخره لمنفعة خلقه، فإن سأل سائل: فلماذا لا يجعلها الله لنا ويملكنا إياها؟ نقول: لأن ربك يريد أن يطمئنك أنه لن يعطيها لأحد أبدا، وستظل ملكا لله وأنت تنتفع بها، وهل تأمن إن ملكها الله لغيره أن يتغير لك ويحرمك منها؟ فأمنك في أن يظل الملك لله وحده، لأنه ربك ومتوليك، ولن يتغير لك، ولن يتنكر في منفعتك...
{والفلك تجري في البحر بأمره...
وهذه لا يملكها ولا يقدر عليها إلا الله... وتأمل دقة الأداء القرآني من الله الذي يعلم ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، فلقائل الآن أن يقول: لم نعد في حاجة إلى الريح تسير السفن، أو توجهها، لأنها أصبحت تسير الآن بآلات ومحركات، نعم السفن الآن تسير بالمحركات، لكن للريح معنى أوسع من ذلك، فالريح ليست هذه القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء، إنما الريح تعني القوة في ذاتها، أيا كانت ريحا أم بخارا أم كهرباء أم ذرة...
ثم يقول سبحانه: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فالسماء مرفوعة فوقنا بلا عمد، لا يمسكها فوقنا إلا الله بقدرته وقيوميته أن تقع على الأرض إلا بإذنه تعالى... {إن الله بالناس لرءوف رحيم} فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة، والفهم السطحي لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد، لكن هما صفتان مختلفتان، فالرأفة تزيل الآلام، والرحمة تزيد الإنعام،... فربك يرأف بك فيزيل عنك أسباب الألم قبل أن يجلب لك نفعا برحمته.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} من خلال ما أودعه فيها من قوانين وأنظمة تمنحها التماسك والثبات بقدرته التي لا يعجزها شيء وإن عظم، فالسماء بكل أفلاكها وكواكبها لا تستند إلى أي شيء من الأشياء التي يستند إليها ما يضرب في الجوّ عادة، فمن أين هذا الثبات وكيف..؟ إن قدرة الله هي التفسير الوحيد لذلك، وكلّ سرّ يكتشفه الإنسان فيه هو سرّ ينطلق من عمق القدرة، لأنه هو الذي خلقه وخلق نتائجه، فهو مسبّب الأسباب وهو سبب كل شيء، وعلى الإنسان أن يفكر في ذلك كله، ليهتدي إلى سرّ عظمة الله في خلقه،...