اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦ وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (65)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض } أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ، ولا أشد من الحديد ، ولا أكثر هيبة من النار ، وقد سخرها لكم ، وسخر الحيوانات أيضاً حتى ينتفع بها للأكل والركوب والحمل{[31792]} .

قوله : «والفُلْكَ » العامة على نصب «الفُلْكَ » وفيه وجهان :

أحدهما : أنها عطف على { مَّا فِي الأرض } أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك ، وأفردها بالذكر وإن اندرجت بطريق العموم تحت «ما » في قوله { مَّا فِي{[31793]} الأرض } لظهور الامتنان بها ، ولعجيب تسخيرها دون سائر المسخرات ، و «تَجْرِي » على هذا حال {[31794]} .

والثاني : أنها عطف على الجلالة ، وتقديره : أَلَمْ تَرَ أَنَّ{[31795]} الفُلْكَ تَجْرِي فِي البَحْر ، ف «تجري » خبر على هذا{[31796]} . وضم لام «الفُلْك » هنا الكسائي فيما رواه عن الحسن ، وهي قراءة ابن مقسم{[31797]} ، وقرأ أبو عبد الرحمان وطلحة والأعرج وأبو حيوة والزعفراني برفع «والفُلْك »{[31798]} على الابتداء ، و«تَجْرِي » بعده الخبر{[31799]} . ويجوز أن يكون ارتفاعه عطفاً على محل اسم «إن » عند من يجيز ذلك{[31800]} نحو إن زيداً وعمرو قائمان ، وعلى هذا ف «تجري » حال أيضاً{[31801]} والباء في «بأمره » للسببية .

فصل{[31802]}

وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياحُ تجريها ، فلولا صفتها على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص{[31803]} أو تقف فنبه تعالى على نعمته بذلك ، وبأن خلق ما تُعْمَل منه السفن ، وبأن بين كيف تعمل ، وقال : «بأَمْرِه » لما كان تعالى هو المجري لها{[31804]} بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعاً ، لأن ذلك يفيد ( تعظيمه بأكثر مما يفيد ){[31805]} لو أضافه إلى فعله على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة{[31806]} .

قوله : { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ } ( في «أَنْ تَقَعَ »{[31807]} ) ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها في محل نصب أو جر لأنها على حذف حرف الجر تقديره من أن تقع {[31808]} .

الثاني : أنها في محل نصب فقط لأنها بدل من «السماء » بدل اشتمال أي ويمسك وقوعها بمنعه {[31809]} .

الثالث : أنها في محل نصب على المفعول من أجله ، فالبصريون يقدرون كراهة أن تقع ، والكوفيون لئلا تقع {[31810]} .

قوله : «إِلاَّ بإِذْنِه » في هذا الجار وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «تَقَع » أي : إلا بإذنه فتقع{[31811]} .

والثاني : أنه متعلق ب «يمسك » .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يعود قوله : «إلا بإذنه » على الإمساك ، لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه ، كأنه أراد إلا بإذنه فيه نمسكها{[31812]} . قال أبو حيان : ولو كان على ما قال لكان التركيب بإذنه دون أداة الاستثناء ويكون التقدير : ويمسك السماء بإذنه{[31813]} .

قال شهاب الدين : فهذا الاستثناء مفرغ ، ولا يقع في موجب ، لكنه لما كان الكلام قبله في قوة النفي ساغ ذلك إذ التقدير : لا يتركها تقع إلا بإذنه ، والذي يظهر أن هذه الباء حالية ، أي : إلا ملتبسة بأمره{[31814]} . ثم قال : { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام ، فهو إذاً رؤوف رحيم{[31815]} .


[31792]:انظر الفخر الرازي 23/63.
[31793]:ما: سقط من ب.
[31794]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/437، تفسير ابن عطية 10/315، التبيان 2/947، البحر المحيط 6/387.
[31795]:في ب: إلى. وهو تحريف.
[31796]:انظر تفسير ابن عطية 10/135، التبيان 2/947، البحر المحيط 6/387.
[31797]:البحر المحيط 6/387.
[31798]:المرجع السابق.
[31799]:انظر تفسير ابن عطية 10/315 التبيان 2/948، البحر المحيط 6/387.
[31800]:وهم الكوفيون، فهم يجوزون العطف على محل اسم (إن) لأنهم لا يشترطون في العطف على المحل وجود المحرز أي الطالب لذلك المحل، ولأن (إن) لم تعمل عندهم في الخبر شيئا، بل هو مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها. والبصريون يمنعون العطف على محل اسم (إن) لأن بعضهم يشترط في العطف على المحل وجود المحرز، ومن لم يشترط منهم ذلك يمنع إن زيدا وعمرو قائمان لتوارد عاملين إن والابتداء على معمول واحد وهو الخبر، ويجيز إن زيدا قائم وعمرو. المغني 2/474، الهمع 2/141.
[31801]:انظر البحر المحيط 6/387.
[31802]:في الأصل: قوله. وهو تحريف.
[31803]:في ب: لعوض. وهو تحريف.
[31804]:في ب: لهما. وهو تحريف.
[31805]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31806]:انظر الفخر الرازي 23/64.
[31807]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[31808]:انظر التبيان 2/948.
[31809]:انظر التبيان 2/948، البحر المحيط 6/387.
[31810]:انظر البحر المحيط 6/387.
[31811]:انظر البحر المحيط 6/387.
[31812]:تفسير ابن عطية 10/315.
[31813]:تفسير ابن عطية 10/387.
[31814]:الدر المصون: 5/80.
[31815]:انظر الفخر الرازي 23/64.