{ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } في الدنيا بسعة الأرزاق وقلتها ، واليسر والعسر والعلم والجهل والعقل والسفه وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها .
{ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الآخرة بوجه من الوجوه .
فكم بين من هو في الغرف العاليات واللذات المتنوعات والسرور والخيرات والأفراح ممن هو يتقلب في الجحيم ويعذب بالعذاب الأليم ، وقد حل عليه سخط الرب الرحيم وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عده .
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم ، ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة ?
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) .
فمن شاء التفاوت الحق ، ومن شاء التفاضل الضخم ، فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة ، والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
ثم قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } في الدنيا ، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيرًا ، ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا ، وبين ذلك { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } أي : ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ؛ فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . وفي الصحيحين : " إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " {[17379]} ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } ]{[17380]} .
وقوله { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } ، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق ، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق ، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوماً الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار ، وهذا قول الطبري : وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق ، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما ثم أخبر عز وجل أن التفضيل الأكبر إنما يكون في الآخرة .
وقوله { أكبر درجات } ليس في اللفظ من أي شيء لكنه في المعنى ولا بد ، أي { أكبر درجات } من كل ما يضاف بالوجود أو بالفرض إليها ، وكذلك قوله { أكبر تفضيلاً } .
قال القاضي أبو محمد : وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين ، وأسند الطبري في ذلك حديثاً نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها{[7514]} .
قال القاضي أبو محمد : ولكن قد رضي{[7515]} الله الجميع فما يغبط أحد أحداً ، ولا يتمنى ذلك بدلاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد بعين قلبك إلى هذين الفريقين اللذين هم أحدهما الدار العاجلة، وإياها يطلب، ولها يعمل؛ والآخر الذي يريد الدار الآخرة، ولها يسعى موقنا بثواب الله على سعيه، كيف فضَّلنا أحد الفريقين على الآخر، بأن بصّرنا هذا رشده، وهديناه للسبيل التي هي أقوم، ويسرناه للذي هو أهدى وأرشد، وخذلنا هذا الآخر، فأضللناه عن طريق الحقّ، وأغشينا بصره عن سبيل الرشد. "وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ "يقول: وفريق مريد الآخرة أكبر في الدار الآخرة درجات بعضهم على بعض لتفاوت منازلهم بأعمالهم في الجنة وأكبر تفضيلا بتفضيل الله بعضهم على بعض من هؤلاء الفريق الآخرين في الدنيا فيما بسطنا لهم فيها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} في الدنيا في الرزق وفي الخلقة يكون بعضهم أعمى، وبعضهم بصيرا، ويكون أصم، ويكون سميعا ونحوه، فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند الله لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا فقد قال {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} ولم يقل أكثر، ولا أوسع. دل أنه على القدر والمنزلة عند الله على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال لنبيه والمراد به أمته معه "انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض "بأن جعلنا بعضهم أغنياء، وبعضهم فقراء، وبعضهم موالي، وبعضهم عبيدا، وبعضهم أصحاء وبعضهم مرضى، بحسب ما علمنا من مصالحهم. ثم قال "وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا" لأنهم معطون على مقدار طاعتهم، فمن كان كثير الطاعة حصلت له الدرجات العالية من الثواب. وإنما أراد [أن] يبين أن التفاضل في الدنيا إذا كان يتنافس عليه، فالتفاضل في الجنة أولى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{انظر} بعين الاعتبار {كَيْفَ} جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروي أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق على أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا -يعني إلى الإسلام- فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر،فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعدّ الله لهم في الجنة أكثر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}، آية تدل دلالة ما على أن العطاء في التي قبلها هو الرزق، وفي ذلك يترتب أن ينظر محمد عليه السلام إلى تفضيل الله لبعض على بعض في الرزق، ونحوه من الصور والشرف والجاه والحظوظ وبين أن يكون التفضيل الذي ينظر إليه النبي عليه السلام إن أعطى الله قوماً الطاعات المؤدية إلى الجنة وأعطى آخرين الكفر المؤدي إلى النار، وهذا قول الطبري: وهذا إنما هو النظر في تفضيل فريق على فريق، وعلى التأويل الآخر فالنظر في تفضيل شخص على شخص من المؤمنين ومن الكافرين كيفما قرنتهما، ثم أخبر عز وجل أن التفضيل الأكبر إنما يكون في الآخرة...
{انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} وفيه قولان:
القول الأول: المعنى: انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن. وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} وقال في آخر سورة الأنعام: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم}.
ثم قال: {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} والمعنى: أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.
القول الثاني: أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا}.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض "في الرزق والعمل، فمن مقل ومكثر. "وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا "أي للمؤمنين، فالكافر وإن وسع عليه في الدنيا مرة، وقتر على المؤمن مرة فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والتفضيل هنا عبارة عن الطاعات المؤدّية إلى الجنة، والمفضل عليهم الكفار، والمفضول في قوله: {أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} محذوف تقديره من درجات الدنيا ومن تفضيل الدنيا.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} أي: ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا؛ فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى ونعيمها وسرورها، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين:"إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء"؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا، فقال تعالى آمراً بالاعتبار: {انظر} وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى: {كيف فضلنا} أي بما لنا من العظمة القاهرة {بعضهم على بعض} في هذه الحياة الدنيا بالعطاء، فصار الفاضل يسخر المفضول، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه، مع أن رزق الله – وهو عطاءه -بالنسبة إلى الكل على حد سواء، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك، وهو من تنزه عن النقص وحاز على كمال، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
النظر في تفاضل البشر: التفاضل وسببه "أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا". إن من أعظم العبرة ما نشاهده في أحوال الخلق، أمما وجماعات وأفرادا من الاختلاف الشديد: فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية. و إنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها أشخاصهم. كذلك تجدهم يتشابهون في شؤونهم النفسية، مع فروق لازمة تتمايز بها شخصياتهم. و يتبع هذا الاختلاف اختلافهم في إدراكهم، وتمييزهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، في ضلالهم و هداهم، و في درجات الهدى ودركات الضلال. كل هذا دال على بديع صنع الخالق القدير، وعجيب وضع العليم الحكيم، فمكنهم تعالى كلهم من الأسباب، وإدراك العقل و حرية الإرادة. ثم فضل بينهم هذا التفضيل.. فكان منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشقي والسعيد، إلى تقسيم كثير. وفقه أسباب هذا التفضيل، هو فقه الحياة والعمران والاجتماع. فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله: "أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض"... (وكيف) سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والاعتبار. والجملة في محل نصب على العامل عن لفظها بكلمة الاستفهام... التفاضل والتفاوت الأخروي وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الابتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء. لكن التفضيل هناك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر؛ في مواقف القيامة، وفي داري الإقامة، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار! و أهل النار متفاوتون في دركاتها، و أهل الجنة متفاوتون في درجاتها... و في هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة؛ فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضا في شيء منها، وهي الدار الفانية. فلم لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية؟! مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة – وما عملها إلا الخير والمعروف – حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه، وأكمل حال. فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، و في ذلك فليتنافس المتنافسون...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الدنيا بسعة الأرزاق وقلتها، واليسر والعسر والعلم والجهل والعقل والسفه وغير ذلك من الأمور التي فضل الله العباد بعضهم على بعض بها. {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} فلا نسبة لنعيم الدنيا ولذاتها إلى الآخرة بوجه من الوجوه. فكم بين من هو في الغرف العاليات واللذات المتنوعات والسرور والخيرات والأفراح ممن هو يتقلب في الجحيم ويعذب بالعذاب الأليم، وقد حل عليه سخط الرب الرحيم وكل من الدارين بين أهلها من التفاوت ما لا يمكن أحدا عده.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ترفيعاً في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره...
والنظر حقيقته توجه آلة الحس البَصري إلى المبصر. وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن، وهو هنا كذلك... والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد، وقد يفضل المسلم فيه الكافر، ويفضل الكافر المسلم، ويفضل بعض المسلمين بعضاً، وبعض الكفرة بعضاً، وكفاك بذلك هادياً إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة... ونصب {درجات} و {تفضيلاً} على التمييز لنسبة {أكبر} في الموضعين، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا... والدرجات مستعارة لعظمة الشرف، والتفضيل: إعطاء الفضل، وهو الجدة والنعمة، وفي الحديث: « ويتصدقون بفضول أموالهم» والمعنى: النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وإن ذلك الذي أشار إليه في الدنيا فقط، أما في الآخرة فطالبوها {أكبر درجات وأكبر تفضيلا} والمعنى أن الذين أرادوا حرث الآخرة، فقصدوها مخلصين، وسعوا لها سعيها مؤمنين أكبر درجات أي أعلى وأسبق وهم في درجات عليا، وكلمة درجات لا تكون إلا في العلو والشرف الرباني، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى: {...نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا... وقال {أكبر تفضيلا} أفعل التفضيل ليس على بابه فلا موازنة في كثرة الفضل، بل المراد أنهم يلقون من الفضل كثرة ليس وراءه فضل لمستزيد، ونفينا المقابلة؛ لأن طلاب العاجلة لا فضل عندهم، لا بقدر قليل، ولا بقدر كبير، بل هم يوم القيامة في العذاب الهون، والمنزلة الدون. والاستفهام في {كيف} للتنبيه، وتقرير تلك الحقائق الثابتة...
والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عاماً، فلم يبين من المفضل ومن المفضل عليه، فلم يقل: فضلت الأغنياء على الفقراء، أو: فضلت الأصحاء على المرضى. إذن: فمادام في القضية عموم في التفضيل، فكل بعض مفضل في جهة، ومفضل عليه في جهة أخرى، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل، فيفضلون هذا لأنه غني، وهذا لأنه صاحب منصب.. الخ...
إذن: في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة؛ لأن الجميع أمام الله سواء، ليس منا من هو ابن الله، وليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل، فالجميع أمام عطائه سواء، لا يوجد أحد أولى من أحد...
فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندك غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره. وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة...
{وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً "21 "} (سورة الإسراء). فإن كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها... وهب أنك تنعمت في الدنيا بأعلى درجات النعيم، فإن نعيمك هذا ينغصه أمران: إما أن تفوت هذا النعيم بالموت، وإما أن يفوتك هو بما تتعرض له من أغيار الحياة. أما الآخرة فعمرك فيها ممتد لا ينتهي، والنعمة فيها دائمة لا تزول، وهي نعمة لا حدود لها؛ لأنها على قدر إمكانيات المنعم عز وجل، في دار خلود لا يعتريها الفناء، وهي متيقنة موثوق بها...
فأيهما أفضل إذن؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكر والتعقل: (انظر) أي الصفقتين الرابحة، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً. إذن: فالآخرة أعظم واكبر، ولا وجه للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن التفضيل في الدرجات في الحياة لا ينطلق من تفضيلٍ في القيمة، ليعيش الإنسان الذي يملك الدرجة العليا الإحساس بأن ذلك تكريمٌ من الله له، ويعيش الإنسان الذي يقف في الدرجة السفلى الإحساس بأن ذلك تحقيرٌ من الله له، فإن هذا الشعور لدى هذا أو ذاك ليس دقيقاً، فقد يكون صاحب الدرجة السفلى في الرزق أقرب إلى الله من صاحب الدرجة العليا، بل ينطلق التفضيل من الحكمة الإلهية في توزيع حاجات الحياة على الناس والمواقع والأشياء وفق الخصائص الذاتية التي تتميز بها الموجودات...
{وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} لأنها تتميز عن الدنيا بالأجواء الواسعة الممتدّة بما يشبه المطلق... إن التفضيل في الدنيا تابعٌ لحاجات الحياة في عملية توزيع الأرزاق والخصائص على الأشخاص والأشياء، بينما هو في الآخرة تابعٌ لعمل الإنسان المؤمن الذي يستمد قوّته من الرحمة الإلهية في روح الإنسان المؤمن وحياته...