نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا} (21)

ثم أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا ، فقال تعالى آمراً بالاعتبار : { انظر } وبين أن حالهم لغرابته أهل لأن يسأل عنه فقال تعالى : { كيف فضلنا } أي بما لنا من العظمة القاهرة { بعضهم على بعض } في هذه الحياة الدنيا بالعطاء ، فصار الفاضل يسخر المفضول ، والمفضول يرغب في خدمة المفضل ويتشرف بالتقرب إليه ، مع أن رزق الله - وهوعطاءه - بالنسبة إلى الكل على حد سواء ، خلق ما هو موجود في هذه الدنيا للبر والفاجر ، وكل حريصون على أن يأخذوا فوق كفايتهم من الأرزاق التي هي أكثر منهم ، فما كان هذا التفاضل إلا بقسر قادر قهرهم على ذلك ، وهو من تنزه عن النقص وحاز على كمال ، فاستحق أن لا توجه رغبة راغب إلا إليه .

ولما نبه على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته ، أخبر أن ما بعد الموت كله كذلك من غير فرق فقال : { وللآخرة } أكد الإخبار عما فيها المستلزم لتأكيد الإعلام بوجودها لهم من إنكاره { أكبر درجات } من هذه الحياة الدنيا { وأكبر تفضيلاً * } أولاً بالجنة والنار أنفسهما ، وثانياً بالدرجات في الجنة والدركات في النار ؛ ولما كان العلم هنا مقيداً بالذنوب ، ذكر بعد المفاضلة في الدنيا ، ولعل في ذلك إشارة إلى أن أكثر من يزاد في الدنيا تكون زيادته نقصاً من آخرته بسبب ذنب اكتسبه أو تقصير ارتكبه ، ولما كان العلم فيما يأتي في قوله تعالى : { وربك أعلم } مطلقاً ، طوى بعده الرذائل ، وعطف على ذلك المطوي الفضائل ، فقال تعالى : { ولقد فضلنا بعض ، النبيين على بعض } الآية ، فمن كانت له نفس أبية وهمة علية كان عليه أن يزهد في علو فانٍ لأجل العلو الباقي .